ورث منه النبوة والملك دون شائر بنيه - وكانوا تسعة عشر - وكان داود أكثر تعبدا وسليمان أقضى وأشكر لنعمة الله " وقال يا أيها الناس " تشهيرا لنعمى الله وتنويها بها واعترافا بمكانها ودعاء للناس إلى التصديق بذكر المعجزة التي هي علم منطق الطير وغير ذلك مما أوتيه من عظائم الأمور . والمنطق : كل ما يصوت به من المفرد والمؤلف المفيد وغير المفيد . وقد ترجم يعقوب بن السكيت كتابه بإصلاح المنطق وما أصلح فيه إلا مفردات الكلم وقالت العرب : نطقت الطير : هو ما يفهم بعضه من بعض من معانيه وأغراضه . ويحكى أنه مر على بلبل في شجرة يحرك رأسه ويميل ذنبه فقال لأصحابه : أتدرون ما يقول ؟ الله ونبيه أعلم : قال يقول : أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفاء . وصاحت فاختة فأخبر أنها تقول : ليت ذا الخلق لم يخلقوا . وصاح طاووس فقال يقولك كما تدين تدان . وصاح هدهد فقال يقول : استغفروا الله يا مذنبين . وصاح يطوي فقال يقول : كل حي ميت وكل جديد بال . وصاح خطاف فقال يقول : قدموا خيرا تجدوه . وصاحت رخمة فقال تقول : سبحان ربي الأعلى ملء سمائه وأرضه . وصاح قمري فأخبر أنه يقول : سبحان ربي الأعلى . وقال : الحدأ يقول كل شيء هالك إلا الله . يا غافلين . والنسر يقول : يا ابن آدم عش ما شئت آخرك الموت . والعقاب يقول : في البعد من الناس أنس . والضفدع يقول : سبحان ربي القدوس . وأراد بقوله : " من كل شيء " كثرة ما أوتي كما تقول : فلان يقصده كل أحد قوله : " وأوتيت من كل شيء " النمل : 23 . " إن هذا لهو الفضل المبين " قول وارد على سبيل الشكر والمحمدة كما قال رسول الله A : أنا سيد ولد آدم ولا فخر أي : أقول هذا القول شكرا ولا أقوله فخرا . فإن قلت : كيف قال علمنا وأوتينا وهو من كلام المتكبرين ؟ قلت : فيه وجهان أحدهما : أن يريد نفسه وأباه . والثاني : أن هذه النون يقال لها نون الواحد المطاع - وكان ملطا مطاعا - فكلم أهل طاعته على صفته وحاله التي كان عليها وليس التكبر من لوازم ذلك وقد يتعلق بتجمل الملك وتفخمه وإظهار آيينه وسياسته مصالح فيعود تكلف ذلك واجبا . وقد كان رسول الله A يفعل نحوا من ذلك إذا وفد عليه وفد أو احتاج أن يرجح في عين عدو . ألا ترى كيف أمر العباس Bه بأن يحبس أبا سفيان حتى تمر عليه الكتائب .
" وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون " روي أن معسكره كان مائة فرسخ في مائة : خمسة وعشرون للجن وخمسة وعشرون للإنس وخمسة وعشرون للطير وخمسة وعشرون للوحش وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب فيها ثلثمائة منكوحة . وسبعمائة سرية وقد نسجت له الجن يساطا من ذهب وإبرايسم فرسخا في فرسخ وكان يوضع منبره في وسطه وهو من ذهب فيقعد عليه وحوله ستمائة ألف كرسي من ذهب وفضة فيقعد الأنبياء على كراسي الذهب والعملاء على كراسي الفضة وحولهم الناس وحول الناس الجن والشياطين وتظله الطير بأجنحتها حتى لا يقع عليه الشمس وترفع ريح الصبا البساط فتسير به مسيرة شهر . ويروي أنه كان يأمر الريح العاصف تحمله ويأمر الرخاء تسيره فأوحى الله إليه وهو يسير بين السماء والأرض : إني قد زدت في ملكك لا يتكلم أحد بشيء إلا ألقته الريح في سمعك فيحكى أنه مر بحراث فقال : لقد أوتى آل داود ملكا عظيما فألقته الريح في أذنه فنزل ومشى إلى الحرث وقال : إنما مشيت إليك لئلا تتمنى مالا تقدر عليه ثم قال : لتسبيحه واحدة يقبلها الله خير مما أوتى آل داود " يوزعون " يحبس أولهم على آخرهم أي : توقف سلاف العسكر حتى تلحقهم التوالي فيكونوا مجتمعين لا يتخلف منهم أحد وذلك للكثرة العظيمة .
" حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم شلينان وجنوده وهم لا يشعرون " قيل : هو واد بالشام كثير النمل . فإن قلت : لم عدي " أتوا " أعلى ؟ قلت : يتوجه على معنيين أحدهما ؛ أن إتيانهم كان من فوق فأتى بحرف الاستعلاء كما قال أبو الطيب : ولشد ما قربت عليك الأنجم