فإن قلت : هل اختلف المعنى بإدخال الواو ههنا وتركها في قصة ثمود ؟ قلت : إذا أدخلت الواو فقد قصد معنيان : كلاهما مناف للرسالة عندهم : التسحير والبشرية وأن الرسول لا يجوز أن يكون مسحرا ولا يجوز أن يكون بشرا وإذا تركت الواو فلم يقصد إلا معنى واحد وهو كونه مسحرا ثم قرر بكونه بشرا مثلهم فإن قلت : إن المخففة من الثقيلة ولا مها كيف تفرقتا على فعل الظن وثاني مفعولية ؟ قلت : أصلهما أن يتفرقا على المبتدأ والخبر كقولك : إن زيد لمطلق فلما كان البابان - أعني باب كان وباب ظننت - من جنس باب المبتدأ والخبر فعل ذلك في البابين فقيل : إن كان زيد لمنطلقا وإن ظننته لمنطلقا .
" فأسقط علينا كسفال من السماء إن كنت من الصادقين " قرئ : كسفا بالسكون والحركة وكلاهما جمع كسفة نحو : قطع وسدر . وقيل : الكسف والكسفة كالريع والريعة وهي القطعة . وكسفه : قطعة . والسماء : السحاب أو المظلة . وما كان طلبهم ذلك إلا تصميمهم على الجحود والتكذيب . ولو كان فيهم أدنى ميل إلى التصديق لما أخطروه ببالهم فضلا أن يطلبوه . والمعنى : إن كنت صادقا أنك نبي فادع الله أن يسقط علينا كسفا من السماء .
" قال ربي أعلم بما تعلمون " " ربي أعلم بما تعلمون " يريد : أن الله أعلم بأعمالكم وبما تستجبون عليها من العقاب فإن أراد أن يعاقبكم بلإسقاط كسف من السماء فعل وإن أراد عقابا آخر فإليه الحكم والمشيئة .
" فكذبوه فأخهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم " " فأخذهم " الله بنحو ما اقترحوا من عذاب الظلة إن أرادوا بالسماء السحاب وإن أرادوا المظلة فقد خالف بهم عن مقترحهم . يروى أنه حبس عنهم الريح سبعا وسلط عليهم الومد . فأخذ بأنفاسهم ولا ينفعهم ظل ولا ماء ولا سرب فاضطروا إلى أن خرجوا إلى البرية فأظلتهم سحابة وجدوا لها بردا ونسيما فاجتمعوا تحتها فأمطرت عليهم نارا فاحترقوا . وروي أن شعيبا بعث إلى أمتين : أصحاب مدين وأصحاب الأيكة فأهلكت مدين بصيحة جبريل وأصحاب الأيكة بعذاب يوم الظلة . فإن قلت : كيف كرر في هذه السورة في أول كل قصة وآخرها ما كرر ؟ قلت : كل قصة منها كتنزيل برأسه وفيها من الاعتبار مثل ما في غيرها فكانت كل واحدة منها تدلي بحق في أن تفتتح بما افتتحت به صاحبتها وان تختتم بما اختتمت به ولأن في التكرير تقريرا للمعاني في الأنفس وتثبيتا لها في الصدور . ألا ترى أنه لا طريق إلى تحفظ العلوم إلا ترديد ما يراد تحفظه منها وكلما زاد ترديده كان أمكن له في القلب وأرسخ في الفهم وأثبت للذكر وأبعد من النسيان ولأن هذه القصص طرقت بها آذان وقر عن الإنصات للحق وقلوب غلف عن تدبره فكوثرت بالوعظ والتذكيلا وروجعت بالترديد والتكرير لعل ذلك يفتح أذنا أو يفتق ذهنا أو يصقل عقلا طال عهده بالصقل أو يجلو فهما قد غطى عليه تراكم الصدأ .
" وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قبلك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين وإنه لفي زبر الأولين "