لما قال له بوابه إن ههنا من يوعم أنه رسول رب العالمين قال له تد دخوله : " وما رب العالمين " يريد : أي شيء رب العالمين . وهذا السؤال لا يخلو : إما أن يريد به أي شيء هو من الأشياء التي شوهدت وعرفت أجناسها فأجاب بما يستدل به عليه من أفعاله الخاصة ليعرفه أنه ليس بشيء مما شوهد وعرف من الأجرام والأعراض وأنه شيء مخالف لجميع الأشياء " ليس كمثله شيء " الشورى : 11 وإما أن يريد به : أي شيء هو على الإطلاق تفتيشا عن حقيقته الخاصة ما هي فأجابه بأن الذي إليه سبيل وهو الكافي في معرفته معرفة ثباته بصفاته استدلالا بأفعاله الخاصة على ذلك . وأما التفتيش عن حقيقته الخاصة التي هي فوق فطر العقول فتفتيش عما لا سبيل إليه والسائل عنه متعنت غير طالب للحق . والذي يليق بحال فرعون ويدل عليه الكلام : أن يكون سؤاله هذا إنكارا لأن يكون للعالمين رب سواه لادعائه الإلهية فلما أجاب موسى بما أجاب عجب قومه من جوابه حيث نسب الربوبية إلى غيره فلما ثنى بتقرير قوله جننه إلى قومه وطنز به حيث سماه رسولهم . فلما ثلث بتقرير آخر : احتد واحتدم وقال : لئن أتخذت إلها غيري . وهذا يدل لعى صحة هذا الوجه الأخير .
" قال رب السموات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين " فإن قلت : كيف قيل : " وما بينهما " على التثنية والمرجوع إليه مجموع ؟ قلت : أريد وما بين الجنسين فعل بالمضمر ما فعل بالظاهر من قال : في الهيجا جمالين فإن قلت : ما معنى قوله : " إن كنتم موقنين " وأين عن فرعون وملئه الإيقان ؟ قلت : معناه إن كان يرجى منكم الإيقان الذي يؤدي إليه النظر الصحيح نفعكم هذا الجواب وإلا لم ينفع أو أن كنتم موقنين بشيء قط فذا أولى ما توقنون به لطهوره وإنارة دليله .
" قال لمن حوله ألا تستمون قال ربكم ورب ءابائكم الأولين قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون " فإن قلت : ومن كان حوله ؟ قلت : أشراف قومه قيل : كانوا خمسمائة رجل عليهم الأساور وكانت للملوك خاصة . فإن قلت : ذكر السموات والأرض وما بينهما قد استوعب به الخلائق كلها فما معنى ذكرهم وذكر آبائهم بعد ذلك وذكر المشرق والمغرب ؟ قلت : قد عمم أولا ثم خصص من العام للبيان أنفسهم وآباءهم . لأن أقرب المنظور فيه من العاقل نفسه ومن ولد منه وما شاهد وعاين من الدلائل على الصانع والناقل من هيئة إلى هيئة وحال إلى حال من وقت ميلاده إلى وقت وفاته ثم خصص المشرق والمغرب لأن طلوع الشمس من أحد الخافقين وغروبها في الآخر على تقدير مستقيم في فصول السنة وحساب مستو من أظهر ما استدل به ؛ ولظهوره انتقل إلى الاحتجاج به خليل الله عن الاحتجاج بالاحتجاج بالإحياء والإماتة على نمروذ بن كنعان فبهت الذي كفر . وقرئ : رب المشارق والمغارب . الذي أرسل إليكم بفتح الهمزة . فإن قلت : كيف قال اولا : " إن كنتم موقنين " وآخرا " إن كنتم تعقلون " ؟ قلت : لأين اولا فلما رأى منهم شدة الشكيمة في العناد قلة افصغاء إلى عرض الحجج خاشن وعارض : إن رسولكم لمجنون بقوله : " إن كنتم تعقلون " .
" قال لئن اتخذت إلاه غيري لأجعلنك من المسجونين " فإن قلت : ألم يكن : لأسجننك أحضر من " لأجعلنك من المسجونين " ومؤديا مؤداه ؟ قلت : أما أخضر فنعم . وأما مؤد مؤداه فلا ؛ لأن معناه : لأجعلنك واحدا ممن عرفت حالهم في سجوني . وكان من عادته أن يأخذ من يريد سجنه فيطرحه في هوة ذاهبة في الأرض بعيدة المعق فردا لا يبصر فيها ولا يسمع فكان ذك أشد من القتل وأشد .
" قال أولو جئتك بشيء مبين قال فأت به إن كنت من الصادقين " الواو في قوله : " أولو جئتك " واو الحال دخلت عليها همزة الاستفهام . معناه : أتفعل بي ذلك ولو جئتك بشيء مبين أي : جائيا بالمعجزة . وفي قوله : " إن كنت من الصدقين " أنه لا يأتي بالمعجزة إلا الصادق في دعواه لأن المعجزة تصديق من الله لمدعي النبوة والحكيم لا يصدق الكاذب . ومن العجب - أن مثل فرعون لم يخف عليه وخفي على ناس من أهل القبلة حيث جوزوا القبيح على الله تعالى حتى لزمهم تصديق الكاذبين بالمعجزات وتقديره : إن كنت من الصادقين في دعواك أتيت به فحذف الجزاء لأن الأمر بالإتيان به يدل عليه .
" فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين "