سجل عليهم بالظلم بأن قدم القوم الظالمين ثم عطفهم عليهم عطف البيان كأن معنى القوم الظالمين وترجمته قوم فرعون وكأنهما عبارتان تعقبان على مؤدى واحد : إن شاء ذاكرهم عبر عنهم بالقوم الظالمين وإن شاء عبر بقوم فرعون . وقد استحقوا هذا الاسم من جهتين : من جهة ظلمهم أنفسهم بالكفر وشرارتهم ومن جهة ظلمهم لبني إسرئيل باستبعادهم لهم . قرئ : ألا يتقون بكسر النون بمعنى : ألا يتقونني : فحذفت النون لاجتماع النونين والياء للكتفاء بالكسرة . فإن قلت : بما تعلق قوله : ألا يتقون ؟ قلت : هو كلام مستأنف أتبعه D إرساله إليهم للإنذار والتسجيل عليهم بالظلم . تعجيبا لموسى من حالهم التي شنعت في الظلم والعسف ومن أمنهم العواقب وقلة خوفهم وحذرهم من أيام الله . ويحتمل أن يكون " ألا يتقون " حالا من الضمير في الظالمين أي : يظلمون غير متقين الله وعقابه فأدخلت همزة الإنكار على الحال . وأما من قرأ : ألا تتقون . على الخطاب . فعلى طريقة الالتفاف إليهم وجبههم وضرب وجوههم بالإنكار والغضب عليهم كما ترى من يشكو من ركب جناية إلى بعض أخصائه والجاني حاضر فإذا اندفع في الشكاية وحر مزاجه وحمى غضبه قطع مباثة صاحبه وأقبل على الجاني يوبخه ويعنف به ويقول به : ألم تتق الله ألم تستح من الناس . فإذا قلت : فما فائدة هذا الإلتفات والخطاب مع موسى E في وقت المناجاة والملتفت إليهم غيب لا يشعرون ؟ قلت : إجراء ذلك في تكليم المرسل إليهم في معنى إجرائه بحضرتهم وإلقائه إلى مسامعهم لأنه مبلغه ومنهيه وناشره بن الناس وله فيه لطف وحث على زيادة التقوى وكم من آية أنزلت في شأن الكافرين وفيها أوفر نصيب للمؤمنين تدبرا لها واعتبارا بموردها . وفي " ألا يتقون " بالياء وكسر النون وجه آخر وهو أن يكون المعنى : ألا يا ناس اتقون كقوله : " ألا يسجدوا " النمل : 25 .
" قال رب إني أخاف أن يكذبون ويضيق صدري ولا ينطلق لساني فأرسل إلى هارون " ويضيق وينطلق بالرفع ؛ لأنهما معطوفان على خبر إن وبالنصب لعطفهما على صلة أن . والفرق بينهما في المعنى : أن الرفع يفيد أن فيه ثلاث علل : خوف التكذيب ي وضيق الصدر وامتناع انطلاق اللسان والنصب على أن خوفه متعلق بهذه الثلاثة . فإن قلت : في النصب تعليق الخوف بالأمور الثلاثة وفي جملتها نفي انطلاق اللسان . وحقيقة الخوف إنما هي غم يلحق الإنسان لأمر سيقع وذلك كان واقعا فكيف جاز تعليق الخوف به ؟ قلت : قد علق الخوف بتكذيبهم بوما يحصل له بسببه من ضيق الصدر والحسبة في اللسان زائدة على ما كان به على أن تلك الحسبة التي كانت به قد زالت بدعوته . وقيل : بقيت منها بقية يشيرة . فإن قلت : أعتذارك هذا يرده الرفع لأن المعنى : إني خائف ضيق الصدر غير منطلق اللسام . قلت : يجوز أن يكون هذا قبل الدعوة واستجابتها ويجوز أن يريد القدر اليسير الذي بقي به ويجوز أن لا يكون مع حل العقدة من لسانه م الفصحاء المصاقع الذين أوتوا سلاطة الألسنة وبسطة في غير هذا الموضع وقد أحسن في الاختصار حيث قال : " فأرسل إلى هارون " فجاء بما يتضمن معنى الاسنباء ومثله في تقصير الطويلة والحسن قوله تعالى : " فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا فدمرناهم تدميرا " الفرقان : 36 حيث اقتصر على ذكر طرفي القصة أولها وآخرها وهما الإنذار والتدمير ودل بذكرهما على ما هو الغرض من القصة الطويلة كلها وهو أنهم قوم كذبوا بآيات الله فأراد الله إلزام الحجة عليهم فبعث إليهم رسولين فكذبوهما فأهلكهم . فإن قلت : كيف ساغ لموسى عليه السلام أن يأمره الله بأمر فلا يتقبله بسمع وطاعة من غير توقف وتشبث بعلل وقد علم أن الله من ورائه ؟ قلت : قد امتثل وتقبل ولكنه التمس من ربه أن يعضده بأخيه حتى يتعاونا على تنفيذ أمره وتبليغ رسالته فمهد قبل التماسه عذره فيما التمسه ثم التمس بعد ذلك وتمهيد العذر في التماس المعين على تنفيذ الأمر : ليس بتوقف في امتثال الأمر ولا بتعلل فيه ؛ وكفى بطلب الوعن دليلا على النقبل لا على التعلل .
" ولهم على ذنب فأخاف أن يقتلون "