فإن قلت : ما المراد بالسلطان المبين ؟ قلت : يجوز أن تراد العصا لأنها كانت أم آيات موسى وأولاها وقد تعلقت بها معجزات شتى : من انقلابها حية وتلقفها ما أفكته السحرة وانفلاق البحر وانفجار العيون من الحجر بضربهما بها وكونها حارسا وشمعة وشجرة خضزاء مثمرة ودلوا ورشاء . وجعلت كأنها ليست بعضها لما استبدت به من الفضل فلذلك عطفت عليها كقوله تعالى : " وجبريل وميكال " البقرة : 98 ، ويجوز أن تراد الآيات أنفسها أي : هي آيات وحدة بينة " عالين " متكبرين " إن فرعون علا في الأرض " القصص : 4 ، ألا يريدون علوا في الأرض " القصص : 83 ، أو متطاولين على الناس قاهرين بالبغي والظلم .
" فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عبدون فكذبوهما فكانوا من المهلكين " .
البشر يكون واحدا وجمعا : " بشرا سويا " مريم : 17 ، " لبشرين " " فإما ترين من البشر " مريم : 26 ، و " مثل " و " غير " يوصف بهما : الاثنان والجمع والمذكر والمؤنث : " إنكم إذا مثلهم " النساء : 140 ، " ومن الأرض مثلهن " الطلاق : 12 ، ويقال أيضا : هما مثلاه وهم أمثاله : " إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم " الأعراف : 194 ، " وقومهما " يعني بني إسرائيل كأنهم يعبدوننا خضوعا وتذللا . أو لأنه كان يدعي الإلهية فادعى للناس العبادة وأن طاعتهم له عبادة على الحقيقة .
" ولقد ءاتينا موسى الكتب لعلهم يهتدون " .
" موسى الكتب " أي قوم موسى التوراة " لعلهم " يعملون بشرائعها ومواعظها كما قال : " على خوف من فرعون وملئهم " يونس : 83 ، يريد آل فرعون وكما يقولون : هاشم وثقيف وتميم ويراد قومهم . ولا يجوز أن يرجع الضمير في " لعلهم " إلى فرعون وملئه لأن التوراة إنما أوتيها بنو إسرائيل بعد إغراق فرعون وملئه : " ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى " القصص : 43 .
" وجعلنا ابن مريم وأمه ءاية وءاوينهما إلى ربوة ذات قرار ومعين " .
فإن قلت : لو قيل آيتين هل كان يكون له وجه ؟ قلت : نعم لأن مريم ولدت من غير مسيس وعيسى روح من الله ألقي إليها وقد تكلم في المهد وكان يحيي الموتى مع معجزات أخر فكان آية من غير وجه واللفظ محتمل للتثنية على تقدير " وجعلنا ابن مريم " آية " وأمه ءاية " ثم حذفت الأولى لدلالة الثانية عليها . الربوة والرباوة في رائهما الحركات . وقرىء : " ربوة ورباوة " بالضم . و " رباوة " بالكسر وهي الأرض المرتفعة . قيل : هي إيليا أرض بيت المقدس وأنها كبد الأرض وأقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلا عن كعب . وقيل : دمشق وغوطتها . وعن الحسن : فلسطين والرملة . وعن أبي هريرة : الزموا هذه الرملة رملة فلسطين فإنها الربوة التي ذكرها الله . وقيل : مصر . والقرار : المستقر من أرض مستوية منبسطة . وعن قتادة : ذات ثمار وماء يعني أنه لاجل الثمار : يستقر فيها ساكنوها . والمعين : الماء الظاهر الجاري على وجه الأرض . وقد اختلف في زيادة ميمه وأصالته لوجه من جعله مفعولا أنه مدرك بالعين لظهوره من عانه : إذا أدركه بعينه نحو : ركبه إذا ضربته بركبته . ووجه من جعله فعيلا : أنه نفاع بظهوره وجريه من الماعون : وهو المنفعة .
" يأيها الرسل كلوا من الطيبت واعملوا صلحا إني بما تعملون عليم " .
هذا النداء والخطاب ليسا على ظاهرهما وكيف والرسل إنما أرسلوا متفرقين في أزمنة مختلفة . وإنما المعنى : الإعلام بأن كل رسول في زمانه نودي لذلك ووصى به ليعتقد السامع أن أمرا نودي له جميع الرسل ووصوا به حقيق أن يؤخذ به ويعمل عليه . والمراد بالطيبات : ما حل وطاب . وقيل : طيبات الرزق حلال وصاف وقوام فالحلال : الذي لا يعصى الله فيه والصافي : الذي لا ينسى الله فيه والقوام : ما يمسك النفس ويحفظ العقل . أو أريد ما يستطاب ويستلذ من المآكل والفواكه . ويشهد له مجيئه على عقب قوله : " وءاويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين " المؤمنون : 50 ، ويجوز أن يقع هذا الإعلام عند إيواء عيسى ومريم إلى الربوة فذكر على سبيل الحكاية أي : آويناهما وقلنا لهما هذا أي : أعلمناهما أن الرسل كلهم خوطبوا بهذا فكلا مما رزقناكما واعملا صالحا اقتداء بالرسل .
" وإن هذه أمتكم أمة وحدة وأنا ربكم فاتقون " .
قرىء : " وإن " بالكسر على الاستئناف . وأن بمعنى ولأن . وأن مخففة من الثقيلة و " أمتكم " مرفوعة معها .
" فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون "