لما أطلعه على سماجة صورة أمره وهدم مذهبه بالحجج القاطعة وناصحه المناصحة العجيبة مع تلك الملاطفات أقبل عليه الشيخ بفظاظة الكفر وغلظة العناد فناداه باسمه ولم يقابل " يأبت " ب " يا بني " وقدم الخبر على المبتدأ في قوله : " أراغب أنت عن ءالهتي يإبرهيم " لأنه كان أهم عنده وهو عنده أعنى وفيه ضرب من التعجب والإنكار لرغبته عن آلهته وأن آلهته ما ينبغي أن يرغب عنها أحد . وفي هذا سلوان وثلج لصدر رسول الله A عما كان يلقى من مثل ذلك من كفار قومه " لأرجمنك " لأرمينك بلساني يريد الشتم والذم ومنه " الرجيم " المرمي باللعن . أو لأقتلنك من رجم الزاني . ولأطردنك رميا بالحجارة . وأصل الرجم الرمي بالرجام " ملييا " زمانا طويلا من الملاوة : أو مليا بالذهاب عني والهجران قبل أن أثخنك بالضرب حتى لا تقدر أن تبرح . يقال : فلان ملي بكذا إذا كان مطيقا له مضطلعا به . فإن قلت : علام عطف " واهجرني " ؟ قلت : على معطوف عليه محذوف يدل عليه " لأرجمنك " أي فاحذرني واهجرني لأن " لأرجمنك " تهديد وتقريع .
" قال سلم عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بى حفيا وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعوا ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا " .
" قال سلم عليك " سلام توديع ومتاركة كقوله تعالى : " لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين " القصص : 55 ، وقوله : " وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما " الفرقان : 63 ، وهذا دليل على جواز متاركة المنصوح له والحال هذه . ويجوز أن يكون قد دعا له بالسلامة استمالة له . ألا ترى أنه وعده الاستغفار . فإن قلت : كيف جاز له أن يستغفر للكافر وأن يعده ذلك . قلت : قالوا أراد اشتراط التوبة عن الكفر كما ترد الأوامر والنواهي الشرعية على الكفار والمراد اشتراط الإيمان وكما يؤمر المحدث والفقير بالصلاة والزكاة ويراد اشتراط الوضوء والنصاب . وقالوا : إنما استغفر له بقوله : " واغفر لأبي إنه كان من الضالين " الشعراء : 86 ، لأنه وعده أن يؤمن . واستشهدوا عليه بقوله تعالى : " وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه " التوبة : 114 ، ولقائل أن يقول : إن الذي منع من الاستغفار للكافر إنما هو السمع فأما القضية العقلية فلا تأباه فيجوز أن يكون الوعد بالاستغفار والوفاء به قبل ورود السمع بناء على قضية العقل والذي يدل على صحته قوله تعالى : " إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك " الممتحنة : 4 ، فلو كان شارطا للإيمان لم يكن مستنكرا ومستثنى عما وجبت فيه الأسوة . وأما عن موعدة وعدها إياه فالواعد هو إبراهيم لا آزر أي : ما قال : واغفر لأبي إلا عن قوله : لأستغفرن لك وتشهد له قراءة حماد الراوية : وعدها أباه . والله أعلم " حفيا " الحفي : البليغ في البر والإلطاف حفى به وتحفى به " وأعتزلكم " أراد بالاعتزال المهاجرة إلى الشام . وأدعو ربي المراد بالدعاء العبادة لأنه منها ومن وسائطها . ومنه قوله A : " الدعاء هو العبادة " ويدل عليه قوله تعالى : " فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله " ويجوز أن يراد الدعاء الذي حكاه الله في سورة الشعراء . عرض بشقاوتهم بدعاء آلهتهم في قوله : " عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا " مع التواضع لنه بكلمة " عسى " وما فيه من هضم النفس .
" فلما اغتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق علينا " ما خسر على الله أحد ترك الكفار الفسقة لوجهه فعوضه أولادا مؤمنين أنبياء . " من رحمتنا " هي النبوة عن الحسن . وعن الكلبي : المال والولد وتكون عامة في كل خير ديني ودنيوي أوتوه . لسان الصدق : الثناء الحسن . وعبر باللسان عما يوجد باللسان كما عبر باليد عما يطلق باليد وهي العطية . قال : .
إني أتتني لسان لا أسر بها