فإن قلت : " من " متناول في نفسه للذكر والأنثى فما معنى تبيينه بهما ؟ قلت : هو مبهم صالح على الإطلاق للنوعين إلا أنه إذا ذكر كان الظاهر تناوله للذكور فقيل " من ذكر أو أنثى " على التبيين ليعم الموعد النوعين جميعا " حياة طيبة " يعني في الدنيا وهو الظاهر لقوله " ولنجزينهم " وعده الله ثواب الدنيا والآخرة كقوله " فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة " آل عمران : 148 ، وذلك أن المؤمن مع العمل الصالح موسرا كان أو معسرا يعيش عيشا طيبا إن كان موسرا فلا مقال فيه . وإن كان معسرا فمعه ما يطيب عيشه وهو القناعة والرضا بقسمة الله . وأما الفاجر فأمره على العكس : إن كان معسرا فلا إشكال في أمره وإن كان موسرا فالحرص لا يدعه أن يتهنأ بعيشه . وعن ابن عباس Bه : الحياة الطيبة : الرزق الحلال . وعن الحسن : القناعة . وعن قتادة : يعني في الجنة . وقيل : هي حلاوة الطاعة والتوفيق في قلبه .
" فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون " .
لما ذكر العمل الصالح ووعد عليه وصل به قوله " فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله " إيذانا بأن الاستعاذة من جملة الأعمال الصالحة التي يجزل الله عليها الثواب . والمعنى : فإذ أردت قراءة القرآن فاستعذ كقوله " إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم " المائدة : 6 ، وكقولك : إذا أكلت فسم الله . فإن قلت : لم عبر عن إرادة الفعل بلفظ الفعل ؟ قلت : لأن الفعل يوجد عند القصد والإرادة بغير فاصل وعلى حسبه فكان منه بسبب قوي وملابسة ظاهرة . وعن عبد الله بن مسعود Bه : قرأت على رسول الله A فقلت : أعوذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم فقال لي : " يا ابن أم عبد قل : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم هكذا أقرأنيه جبريل عليه السلام عن القلم عن اللوح المحفوظ " " ليس له سلطان " أي تسلط وولاية على أولياء الله يعني : أنهم لا يقبلون منه ولا يطيعونه فيما يريد منهم من اتباع خطواته " إنما سلطانه " على من يتولاه ويطيعه " به مشركون " الضمير يرجع إلى ربهم . ويجوز أن يرجع إلى الشيطان على معنى : بسببه وغروره ووسوسته .
" وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون " .
تبديل الآية مكان الآية : هو النسخ والله تعالى ينسخ الشرائع بالشرائع لأنها مصالح وما كان مصلحة أمس يجوز أن يكون مفسدة اليوم وخلافه مصلحة . والله تعالى عالم بالمصالح والمفاسد فيثبت ما يشاء وينسخ ما يشاء بحكمته . وهذا معنى قوله " والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر " للطعن فطعنوا وذلك لجهلهم وبعدهم عن العلم بالناسخ والمنسوخ وكانوا يقولون : إن محمدا يسخر من أصحابه : يأمرهم اليوم بأمر وينهاهم عنه غدا فيأتيهم بما هو أهون ؟ ولقد افتروا فقد كان ينسخ الأشق بالأهون والأهون بالأشق والأهون بالأهون والأشق بالأشق لأن الغرض المصلحة لا الهوان والمشقة . فإن قلت : هل في ذكر تبديل الآية بالآية دليل على أن القرآن إنما ينسخ بمثله ولا يصح بغيره من السنة والإجماع والقياس ؟ قلت : فيه أن قرآنا ينسخ بمثله وليس فيه نفي نسخه بغيره على أن السنة المكشوفة المتواترة مثل القرآن في إيجاب العلم فنسخه بها كنسخه بمثله وأما الإجماع والقياس والسنة غير المقطوع بها فلا يصح نسخ القرآن بها .
" قل نزله روح القدس من ربك الحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين "