" هذا البلد " يعني البلد الحرام زاده الله أمنا وكفاه كل باغ وظالم وأجاب فيه دعوة خليله إبراهيم عليه السلام " أمنا " ذا أمن . فإن قلت : أي فرق بين قوله : " اجعل هذا بلدا آمنا " البقرة : 126 ، وبين قوله : " اجعل هذا البلد آمنا " ؟ قلت : قد سأل في الأول أن يجعله من جملة البلاد التي يأمن أهلها ولا يخافون وفي الثاني أن يخرجه من صفة كان عليها من الخوف إلى ضدها من الأمن كأنه قال : هو بلد مخوف فاجعله آمنا " واجنبني " وقرئ : وأجنبني وفيه ثلاث لغات : جنبه الشر وجنبه وأجنبه فأهل الحجاز يقولون : جنبني شره بالتشديد وأهل نجد جنبني وأجنبني والمعنى : ثبتنا وأدمنا على اجتناب عبادتها " وبني " أراد بنيه من صلبه وسئل ابن عيينة : كيف عبدت العرب الأصنام فقال : ما عبد أحد من ولد إسماعيل صنما واحتج بقوله : " واجنبني وبني " " أن نعبد الأصنام " إنما كانت أنصاب حجارة لكل قوم قالوا : البيت حجر فحيثما نصبنا حجرا فهو بمنزلة البيت فكانوا يدورون بذلك الحجر ويسمونه الدوار فاستحب أن يقال : طاف بالبيت ولا يقال : دار بالبيت " إنهن أضللن كثيرا من الناس " فأعوذ بك أن تعصمني وبني من ذلك وإنما جعلن مضلات لأن الناس ضلوا بسببهن فكأنهن أضللنهم كماتقول : فتنتهم الدنيا وغرتهم أي افتتنوا بها واغتروا بسببها " فمن تبعني " على ملتي وكان حنيفا مسلما مثلي " فإنه مني " أي هو بعضي لفرط اختصاصه بي وملابسته لي وكذلك قوله : " من غشنا فليس منا " أي ليس بعض المؤمنين على أن الغش ليس من أفعالهم وأوصافهم " ومن عصاني فإنك غفور رحيم " تغفر له ما سلف منه من عصياني إذا بدا له فيه واستحدث الطاعة لي . وقيل : معناه ومن عصاني فيما دون الشرك .
" ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون " .
" من ذريتي " بعض أولادي وهم إسماعيل ومن ولد منه " بواد " هو وادي مكة " غير ذي زرع " لا يكون فيه شيء من زرع قط كقوله : " قرآنا عربيا غير ذي عوج " الزمر : 28 ، بمعنى لا يوجد فيه اعوجاج ما فيه إلا الاستقامة لا غير . وقيل للبيت المحرم لأن الله حرم التعرض له والتهاون به وجعل ما حوله حرما لمكانه أو لأنه لم يزل ممنعا عزيزا يهابه كل جبار كالشيء المحرم الذي حقه أن يجتنب أو لأنه محترم عظيم الحرمة لا يحل انتهاكه أو لأنه حرم على الطوفان أي منع منه كما سمي عتيقا لأنه أعتق منه فلم يستول عليه " ليقيموا الصلاة " اللام متعلقة بأسكنت أي : ما أسكنتهم هذا الوادي الخلاء البلقع من كل مرتفق ومرتزق إلا ليقيموا الصلاة عند بيتك المحرم وبعمروه بذكرك وعبادتك وما تعمر به مساجدك ومتعبداتك متبركين بالبقعة التي شرفتها على البقاع مستسعدين بجوارك الكريم متقربين إليك بالعكوف عند بيتك والطواف به والركوع والسجود حوله مستنزلين الرحمة التي آثرت بها سكان حرمك " أفئدة من الناس " أفئدة من أفئدة الناس ومن للتبعيض ويدل عليه ما روي عن مجاهد : لو قال أفئدة الناس لرحمتكم عليه فارس والروم وقيل : لو لم يقل " من " لازدحموا عليه حتى الروم والترك والهند ويجوز أن يكون من للابتداء كقولك : القلب مني سقيم تريد قلبي فكأنه قيل : أفئدة ناس وإنما نكرت المضاف إليه في هذا التمثيل لتنكير أفئدة لأنها في الآية نكرة ليتناول بعض الأشدة . وقرئ : آفدة بوزن عاقدة . وفيه وجهان أحدهما : أن يكون من القلب كقولك : آدر في أدؤر . والثاني : أن يكون اسم فاعلة من أفدت الرحلة إذا عجلت أي جماعة أو جماعات يرتحلون إليهم ويعجلون نحوهم . وقرئ : أفدة وفيه وجهان : أن تطرح الهمزة للتخفيف وإن كان الوجه أن تخفف بإخراجها بين بين . وأن يكون من أفد " تهوى إليهم " تسرع إليهم وتطير نحوهم شوقا ونزاعا من قوله : .
يهوي مخارمها هوي الأجدال