هذا مثل ضربه الله للحق وأهله والباطل وحزبه كما ضرب الأعمى والبصير والظلمات والنور مثلا لهما فمثل الحق وأهله بالماء الذي ينزله من السماء فتسيل به أودية الناس فيحيون به وينفعهم أنواع المنافع وبالفلز الذي ينتفعون به في صوغ الحلي منه واتخاذ الأواني والآلات المختلفة ولو لم يكن إلا الحديد الذي فيه البأس الشديد لكفي به وأن ذلك ماكث في الأرض باق بقاء ظاهرا يثبت الماء في منافعه . وتبقى آثاره في العيون والبئار والجبوب والثمار التي تنبت به مما يدخر ويكنز وكذلك الجواهر تبقى أزمنة متطاولة . وشبه الباطل في سرعة اضمحلاله ووشك زواله وانسلاخه عن المنفعة بزبد السيل الذي يرمي به وبزبد الفلز الذي يطفو فوقه إذا أذيب . فإن قلت : لم نكرت الأودية ؟ قلت : لأن المطر لا يأتي إلا على طريق المناوبة بين البقاع فيسيل بعض أودية الأرض دون بعض . فإن قلت : فما معنى قوله : " بقدرها " ؟ قلت : بمقدارها الذي عرف الله أنه نافع للممطور عليهم غير ضار . ألا ترى إلى قوله : " وأما ما ينفع الناس " لأنه ضرب المطر مثلا للحق فوجب أن يكون مطرا خالصا للنفع خاليا من المضرة ولا يكون كبعض الأمطار والسيول الجواحف . فإن قلت : فما فائدة قوله : " ابتغاء حلية أو متاع " ؟ قلت : الفائدة في كالفائدة في قوله : " بقدرها " لأنه جمع الماء والفلز في النفع في قوله : " وأما ما ينفع الناس " لأن المعنى : وأما ما ينفعهم من الماء والفلز فذكر وجه الانتفاع مما يوقد عليه منه ويذاب وهو الحلية والمتاع . وقوله : " ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع " عبارة جامعة لأنواع الفلز مع إظهار الكبرياء في ذكره على وجه التهاون به كما هو هجيري الملوك نحو ما جاء في ذكر الآجر " أوقد لي يا هامان على الطين " القصص : 38 ، و من لابتداء الغاية . أي ومنه ينشأ زبد مثل زبد الماء . أو للتبعيض بمعنى وبعضه زبدا رابيا منفخا مرتفعا على وجه السيل " جفاء " يجفؤه السيل أي يرمي به . وجفأت القدر بزبدها وأجفأ السيل وأجفل . وفي قراءة رؤبة ابن العجاج : جفالا وعن أبي حاتم : لا يقر بقراءة رؤبة لأنه كان يأكل الفأر . وقرئ : يوقدون بالياء : أي يوقد الناس .
" للذين استجابوا لربهم الحسنى والذين لم يستجيبوا له لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به أولئك لهم سوء الحساب ومأواهم جهنم وبئس المهاد " .
" للذين استجابوا " اللام متعلقة بيضرب أي كذلك يضرب الله الأمثال للمؤمنين الذين استجابوا وللكافرين الذين لم يستجيبوا أي : هما مثلا الفريقين . و " الحسنى " صفة لمصدر استجابوا أي : استجابوا الاستجابة الحسنى . وقوله " لو أن لهم " كلام مبتدأ في ذكر ما أعد لغير المستجيبين . وقيل : قد تم الكلام عند قوله : " كذلك يضرب الله الأمثال " الرعد : 17 ، وما بعده كلام مستأنف . والحسنى : مبتدأ خبره " للذين استجابوا " والمعنى : لهم المثوبة الحسنى وهي الجنة " والذين لم يستجيبوا " مبتدأ خبره " لو " مع ما في حيزه و " سوء الحساب " المناقشة فيه . وعن النخعي : أن يحاسب الرجل بذنبه كله لا يغفر منه شيء .
" أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر ألوا الألباب " .
دخلت همزة الإنكار على الفاء في قوله " أفمن يعلم " لإنكار أن تقع شبهة بعد ما ضرب من المثل في أن حال من علم " أنما أنزل إليك من ربك الحق " فاستجاب بمعزل من حال الجاهل الذي لم يستبصر فيستجيب : كبعد ما بين الزبد والماء والخبث والإبريز " إنما يتذكر ألوا الألباب " أي الذين عملوا على قضيات عقولهم فنظروا واستبصروا .
" الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرؤون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار "