لما دنا فرج يوسف رأى ملك مصر الريان بن الوليد رؤيا عجيبة هالته : رأى سبع بقرات سمان خرجن من نهر يابس . وسبع بقرات عجاف فابتلعت العجاف السمان . ورأى سبع سنبلات خضر قد انعقد حبها وسبعا أخر يابسات قد استحصدت وأدركت فالتوت اليابسات على الخضر حتى غلبن عليها فاستعبرها فلم يجد في قومه من يحسن عبارتها " سمان " جمع سمين وسمينة وكذلك رجال ونسوة كرام . فإن قلت : هل من فرق بين إيقاع " سمان " صفة للمميز وهو " بقرات " دون المميز وهو " سبع " وأن يقال : سبع بقرات سمانا ؟ قلت : إذا أوقعتها صفة لبقرات . فقد قصدت إلى أن تميز السبع بنوع من البقرات وهي السمان منهن لا بجنسهن . ولو وصفت بها السبع لقصدت إلى تمييز السبع بجنس البقرات لا بنوع منها ثم رجعت فوصفت المميز بالجنس بالسمن . فإن قلت : هلا قيل : سبع عجاف على الإضافة ؟ قلت التمييز موضوع لبيان الجنس والعجاف وصف لا يقع البيان به وحده . فإن قلت : فقد يقولون : ثلاثة فرسان وخمسة أصحاب . قلت : الفارس والصاحب والراكب ونحوها : صفات جرت مجرى الأسماء فأخذت حكمها وجاز فيها ما لم يجز في غيرها . ألا تراك لا تقول : عندي ثلاثة ضخام وأربعة غلاظ . فإن قلت : ذاك مما يشكل وما نحن بسبيله لا إشكال فيه . ألا ترى أنه لم يقل بقرات سبع عجاف لوقوع العلم بأن المراد البقرات ؟ قلت : ترك الأصل لا يجوز مع وقوع الاستغناء عما ليس بأصل وقد وقع الاستغناء بقولك " سبع عجاف " عما تقترحه من التمييز بالوصف . والعجف : الهزال الذي ليس بعده والسبب في وقوع عجاف جمعا لعجفاء وأفعل وفعلاء لا يجمعان على فعال : حمله على سمان لأنه نقيضه ومن دأبهم حمل النظير على النظير والنقيض على النقيض . فإن قلت : هل في الآية دليل على أن السنبلات اليابسات كانت كالخضر ؟ قلت : الكلام مبني على انصبابه إلى هذا العدد في البقرات السمان والعجاف والسنابل الخضر فوجب أن يتناول معنى الأخر السبع ويكون قوله : " وأخر يابسات " بمعنى وسبعا أخر . فإن قلت : هل يجوز أن يعطف قوله " وأخر يابسات " على " سنبلات خضر " فيكون مجرور المحل ؟ قلت : يؤدي إلى تدافع وهو أن عطفها على " سنبلات خضر " يقتضي أن تدخل في حكمها فتكون معها مميزا للسبع المذكورة ولفظ الأخر يقتضي أن تكون غير السبع بيانه : أنك تقول : عندي سبعة رجال قيام وقعود بالجر فيصح ؟ لأنك ميزت السبعة برجال موصوفين بالقيام والقعود على أن بعضهم قيام وبعضهم قعود ؟ فلو قلت : عنده سبعة رجال قيام وآخرين قعود تدافع ففسد " يا أيها الملأ " كأنه أراد الأعيان من العلماء والحكماء . واللام في قوله " للرؤيا " إما أن تكون للبيان كقوله " وكانوا فيه من الزاهدين " يوسف : 20 ، وإما أن تدخل لأن العامل إذا تقدم عليه معموله لم يكن في قوته على العمل فيه مثله إذا تأخر عنه فعضد بها كما يعضد بها اسم الفاعل إذا قلت : هو عابر للرؤيا ؟ لانحطاطه عن الفعل في القوة . ويجوز أن يكون للرؤيا خبر كان كما تقول : كان فلان لهذا الأمر إذا كان مستقلا به متمكنا منه . و " تعبرون " خبر آخر أو حال وأن يضمن " تعبرون " معنى فعل يتعدى باللام كأنه قيل : إن كنتم تنتدبون لعبارة الرؤيا . وحقيقة عبرت الرؤيا ذكرت عاقبتها وآخر أمرها كما تقول : عبرت النهر إذا قطعته حتى تبلغ آخر عرضه وهو عبره . ونحوه : أولت الرؤيا إذا ذكرت مالها وهو مرجعها . وعبرت الرؤيا بالتخفيف هو الذي اعتمده الأثبات ورأيتهم ينكرون عبرت بالتشديد والتعبير والمعبر . وقد عثرت على بيت أنشده المبرد في كتاب الكامل لبعض الأعراب : .
رأيت رؤيا ثم عبرتها ... وكنت للأحلام عبارا .
" قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين " .
" أضغاث أحلام " تخاليطها وأباطيلها وما يكون منها من حديث نفس أو وسوسة شيطان . وأصل الأضغاث : ما جمع من أخلاط النبات وحزم الواحد : ضغث فاستعيرت لذلك والإضافة بمعنى من أي أضغاث من أحلام والمعنى : هي أضغاث أحلام . فإن قلت : ما هو إلا حلم واحد فلم قالوا : أضغاث أحلام فجمعوا ؟ قلت : هو كما تقول :