" أرأيتم " أخبروني " إن كنت على بينة " على برهان " من ربي " وشاهد منه يشهد بصحة دعواي " وآتاني رحمة من عنده " بإيتاء البينة على أن البينة في نفسها هي الرحمة ويجوز أن يريد بالبينة : المعجزة وبالرحمة : النبوة . فإن قلت : فقوله : " فعميت " ظاهر على الوجه الأول فما وجهه على الوجه الثاني ؟ وحقه أن يقال فعميتا ؟ قلت : الوجه أن يقدر فعميت بعد البينة وأن يكون حذفه للاقتصار على ذكره مرة : ومعنى عميت خفيت . وقرئ : فعميت بمعنى خفيت . وفي قراءة أبي فعماها عليكم فإن قلت : فما حقيقته ؟ قلت : حقيقته أن الحجة كما جعلت بصيرة ومبصرة جعلت عمياء لأن الأعمى لا يهتدي ولا يهدي غيرة فمعنى فعميت عليكم البينة فلم تهدكم كما لو عمي على القوم دليلهم في المفازة بقوا بغير هاد . فإن قلت : فما معنى قراءة أبي ؟ قلت : المعنى أنهم صمموا على الإعراض عنها فخلاهم الله وتصميمهم فجعلت تلك التخلية تعمية منه والدليل عليه قوله : " أنلزمكموها وأنتم لها كارهون " يعني أنكرهكم على قبولها ونقسركم على الاهتداء بها وأنتم تكرهونها ولا تختارونها ولا إكراه في الدين ؟ وقد جيء بضميري المفعولين متصلين جميعا . ويجوز أن يكون الثاني منفصلا كقولك : أنلزمكم إياها . ونحوه " فسيكفيكهم الله " البقرة : 137 ، ويجوز : فسيكفيك إياهم . وحكي عن أبي عمرو إسكان الميم . ووجهه أن الحركة لم تكن إلا خلسة خفيفة فظنها الراوي سكونا . والإسكان الصريح لحن عند الخليل وسيبويه وحذاق البصريين لأن الحركة الإعرابية لا يسوغ طرحها إلا في ضرورة الشعر . والضمير في قوله : " لا أسألكم عليه " راجع إلى قوله لهم : " إني لكم نذير مبين أن لا تعبدوا إلا الله " هود : 25 ، . وقرئ : " وما أنا بطارد الذين آمنوا " بالتنوين على الأصل . فإن قلت : ما معنى قوله : " إنهم ملاقو ربهم " ؟ قلت : معناه أنهم يلاقون الله فيعاقب من طردهم . أو يلاقونه فيجازيهم على ما في قلوبهم من إيمان صحيح ثابت كما ظفر لي منهم وما أعرف غيره منهم . أو على خلاف ذلك مما تقرفونهم به من بناء إيمانهم على بادئ الرأي من غير نظر وتفكر . وما علي أن أشق عن قلوبهم وأتعرف سر ذلك منهم حتى أطردهم إن كان الأمر كما تزعمون . ونحوه " ولا تطرد الذين يدعون ربهم " الآية الأنعام : 52 ، أو هم مصدقون بلقاء ربهم موقنون به عالمون أنهم ملاقوه لا محالة " تجهلون " تتسافهون على المؤمنين وتدعونهم أراذل : من قوله : .
ألا يجهلن أحد علينا .
أو تجهلون بلقاء ربكم . أو تجهلون أنهم خير منكم " من ينصرني من الله " من يمنعني من انتقامه " إن طردتهم " وكانوا يسألونه أن يطردهم ليؤمنوا به أنفة من أن يكونوا معهم على سواء " أعلم الغيب " معطوف على " عندي خزائن الله " أي لا أقول عندي خزائن الله ولا أقول : أنا أعلم الغيب . ومعناه : لا أقول لكم : عندي خزائن الله فأدعي فضلا عليكم في الغنى حتى تجحدوا فضلي بقولكم " وما نرى لكم علينا من فضل " هود : 27 ، ولا أدعي علم الغيب حتى تنسبوني إلى الكذب والافتراء أو حتى أطلع على ما في نفوس أتباعي وضمائر قلوبهم " ولا أقول إني ملك " حتى تقولوا لي ما أنت إلا بشر مثلنا ولا أحكم على من استرذلتم من المؤمنين لفقرهم أن الله لن يؤتيهم خيرا في الدنيا والآخرة لهوانهم عليه كما تقولون مساعدة لكم ونزولا على هواكم " إني إذا لمن الظالمين " إن قلت شيئا من ذلك والازدراء : افتعال من زري عليه إذا عابه . وأزرى به : قصر به يقال ازدرته عينه واقتحمته عينه .
" قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين " .
" جادلتنا فأكثرت جدالنا " معناه : أردت جدالنا وشرعت فيه فأكثرته كقولك : جاد فلان فأكثر وأطاب " فأتنا بما تعدنا " من العذاب المعجل .
" قال إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون أم يقولون أفتراه قل إن أفتريته فعلي إجرامي وأنا بريء مما تجرمون "