" إن كنتم آمنتم بالله " صدقتم به وبآياته " فعليه توكلوا " فإليه أسندوا أمركم في العصمة من فرعون . ثم شرط في التوكل الإسلام وهو أن يسلموا نفوسهم لله أي يجعلوها له سالمة خالصة لا حظ للشيطان فيها لأن التوكل لا يكون مع التخليط . ونظيره في الكلام : إن ضربك زيد فاضربه وإن كانت بك قوة " فقالوا على الله توكلنا " إنما قالوا ذلك لأن القوم كانوا مخلصين لا جرم أن الله سبحانه قبل توكلهم وأجاب دعاءهم ونجاهم وأهلك من كانوا يخافونه وجعلهم خلفاء في أرضه فمن أراد أن يصلح للتوكل على ربه والتفويض إليه فعليه برفض التخليط إلى الإخلاص " لا تجعلنا فتنة " موضع فتنة لهم أي : عذاب يعذبوننا ويفتنوننا عن ديننا . أو فتنة لهم يفتتنون بنا ويقولون : لو كان هؤلاء على الحق لما أصيبوا .
" وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين " .
تبوأ المكان : اتخذه مباءة كقولك : توطنه إذا اتخذه وطنا . والمعنى اجعلا بمصر بيوتا من بيوته مباءة لقومكما ومرجعا يرجعون إليه للعبادة والصلاة فيه " واجعلوا بيوتكم " تلك " قبلة " أي مساجد متوجهة نحو القبلة وهي الكعبة وكان موسى ومن معه يصلون إلى الكعبة وكانوا في أول أمرهم مأمورين بأن يصلوا في بيوتهم في خفية من الكفرة لئلا يظهروا عليهم فيؤذوهم ويفتنوهم عن دينهم كما كان المؤمنون على ذلك في أول الإسلام بمكة . فإن قلت : كيف نوع الخطاب فثنى أولا ثم جمع ثم وحد آخرا . قلت : خوطب موسى وهارون عليهما السلام أن يتبوآ لقومهما بيوتا ويختاراها للعبادة وذلك مما يفوض إلى الأنبياء . ثم سيق الخطاب عاما لهما ولقومهما باتخاذ المساجد والصلاة فيها لأن ذلك واجب علي الجمهور ثم خص موسى عليه السلام بالبشارة التي الغرض تعظيما لها وللمبشر بها .
" وقال موسى ربنا إنك أتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم " .
الزينة : ما يتزين به من لباس أو حلي أو فرش أو أثاث أو غير ذلك . وعن ابن عباس Bه : كانت لهم من فسطاط مصر إلى أرض الحبشة جبال فيها معادن من ذهب وفضة وزبرجد وياقوت . فإن قلت : ما معنى قوله : " ربنا ليضلوا عن سبيلك " قلت : هو دعاء بلفظ الأمر كقوله : " ربنا اطمس " " واشدد " وذلك أنه لما عرض عليهم آيات الله وبيناته عرضا مكررا وردد عليهم النصائح والمواعظ زمانا طويلا وحذرهم عذاب الله وانتقامه وأنذرهم عاقبة ما كانوا عليه من الكفر والضلال المبين ورآهم لا يزيدون على عرض الآيات إلا كفرا وعلى الإنذار إلا استكبارا وعن النصيحة إلا نبوا ولم يبق له مطمع فيهم وعلم بالتجربة وطول الصحبة أنه لا يجيء منهم إلا الغي والضلال وأن إيمانهم كالمحال الذي لا يدخل تحت الصحة أو علم ذلك بوحي من الله اشتد غضبه عليهم وأفرط مقته وكراهته لحالهم . فدعا الله عليهم بما علم أنه لا يكون غيره كما تقول : لعن الله إبليس وأخزى الله الكفرة مع علمك أنه لا يكون غير ذلك وليشهد عليهم بأنه لم يبق له فيهم حيلة وأنهم لا يستأهلون إلا أن يخذلوا ويخلى بينهم وبين ضلالهم يتسكعون فيه كأنه قال : ليثبتوا على ما هم عليه من الضلال . وليكونوا ضلالا وليطبع الله على قلوبهم فلا يؤمنوا وما علي منهم هم أحق بذلك وأحق كما يقوله الأب المشفق لولده الشاطر إذا ما لم يقبل منه حسرة على ما فاته من قبول نصيحته وحردا عليه لا أن يريد خلاعته واتباعه هواه . ومعنى الشد على القلوب . الاستيثاق منها حتى لا يدخلها الإيمان " فلا يؤمنوا " جواب للدعاء الذي هو اشدد أو دعاء بلفظ النهي وقد حملت اللام في ليضلوا على التعليل على أنهم جعلوا نعمة الله سببا في الضلال فكأنهم أوتوها ليضلوا . وقوله : " فلا يؤمنون " عطف على ليضلوا . وقوله : " ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم " دعاء معترض بين المعطوف والمعطوف عليه . وقرأ الفضل الرقاشي : أئنك آتيت على الاستفهام واطمس بضم الميم .
" قال لقد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون "