" من بعدهم " من بعد الرسل " بآياتنا " بالآيات التسع " فاستكبروا " عن قبولها وهو أعظم الكبر أن يتهاون العبيد برسالة ربهم بعد تبينها ويتعظموا عن تقبلها " وكانوا قوما مجرمين " كفارا ذوي آثام عظام فلذلك استكبروا عنها واجترءوا على ردها " فلما جاءهم الحق من عندنا " فلما عرفوا أنه هو الحق وأنه من عند الله لا من قبل موسى وهارون " قالوا " لحبهم الشهوات " إن هذا لسحر مبين " وهم يعلمون أن الحق أبعد شيء من السحر الذي ليس إلا تمويها وباطلا . فإن قلت : هم قطعوا بقولهم : " إن هذا لسحر مبين " على أنه سحر فكيف قيل لهم : أتقولون أسحر هذا ؟ قلت : فيه أوجه : أن يكون معنى قوله : " أتقولون للحق " أتعيبونه وتطعنون فيه . وكان عليكم أن تذعنوا له وتعظموه من قولهم : فلان يخاف القالة وبين الناس تقاول إذا قال بعضهم لبعض ما يسوؤه ونحو القول : الذكر في قوله : " سمعنا فتى يذكرهم " الأنبياء : 60 ، ثم قال : " أسحر هذا " فأنكر ما قالوه في عيبه والطعن عليه وأن يحذف مفعول أتقولون وهو ما دل عليه قولهم : " إن هذا لسحر مبين " كأنه قيل : أتقولون ما تقولون يعني قولهم : إن هذا لسحر مبين ثم قيل : أسحر هذا ؟ وأن يكون جملة قوله : " أسحر هذا ولا يفلح الساحرون " حكاية لكلامهم كأنهم قالوا : أجئتما بالسحر تطلبان به الفلاح " ولا يفلح الساحرون " كما قال موسى للسحرة : ما جئتم به السحر إن الله سيبطله " لتلفتنا " لتصرفنا . واللفت والفتل : أخوان ومطاوعهما الالتفات والانفتال " وجدنا عليه آباءنا " يعنون عبادة الأصنام " وتكون لكما الكبرياء " أي الملك لأن الملوك موصوفون بالكبر . ولذلك قيل للملك الجبار ووصف بالصيد والشوس ولذلك وصف ابن الرقيات مصعبا في قوله : .
ملكه ملك رأفة ليس فيه ... جبروت منه ولا كبرياء .
ينفي ما عليه الملوك من ذلك . ويجوز أن يقصدوا ذمهما وأنهما إن ملكا أرض مصر تجبرا وتكبرا كما قال القبطي لموسى عليه السلام : إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض " وما نحن لكما بمؤمنين " أي مصدقين لكما فيما جئتما به . وقرئ : يطبع ويكون لكما بالياء .
" وقال فرعون أتوني بكل ساحر عليم فلما جاء السحرة قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون " .
" ما جئتم به " ما موصولة واقعة مبتدأ . و " السحر " خبر أي الذي جئتم به هو السحر لا الذي سماه فرعون وقومه سحرا من آيات الله . وقرئ : آلسحر على الاستفهام . فعلى هذه القراءة ما استفهامية أي : أي شيء جئتم به أهو السحر ؟ وقرأ عبد الله : ما جئتم به سحرا وقرأ أبي : ما أتيتم به سحر . والمعنى : لا ما أتيت به " إن الله سيبطله " سيمحقه أو يظهر بطلانه بإظهار المعجزة على الشعوذة " لا يصلح عمل المفسدين " لا يثبته ولا يديمه ولكن يسلط عليه الدمار " ويحق الله الحق " ويثبته " بكلماته " بأوامره وقضاياه . وقرئ : بكلمته بأمره ومشيئته .
" فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين " .
" " فما آمن لموسى " في أول أمره " إلا ذرية من قومه " إلا طائفة من ذراري بني إسرائيل كأنه قيل : إلا أولاد من أولاد قومه . وذلك أنه دعا الآباء فلم يجيبوه خوفا من فرعون وأجابته طائفة من أبنائهم مع الخوف . وقيل : الضمير في قومه لفرعون والذرية : مؤمن آل فرعون وآسية امرأته وخازنه وامرأة خازنه وماشطته . فإن قلت : إلام يرجع الضمير في قوله : " وملئهم " ؟ قلت : إلى فرعون بمعنى آل فرعون كما يقال : ربيعة ومضر . أو لأنه ذو أصحاب يأتمرون له . ويجوز أن يرجع إلى الذرية أي على خوف من فرعون وخوف من أشراف بني إسرائيل لأنهم كانوا يمنعون أعقابهم خوفا من فرعون عليهم وعلى أنفسهم . ويدل عليه قوله : " أن يفتنهم " يريد أن يعذبهم " وإن فرعون لعال في الأرض " لغالب فيها قاهر " وإنه لمن المسرفين " في الظلم والفساد وفي الكبر والعتو بادعائه الربوبية .
" وقال موسى لقومه إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين فقالوا على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ونجنا برحمتك من القوم الكافرين "