لما افتتح مكة سأل أي أبويه أحدث به عهدا ؟ فقيل : أمك آمنة فزار قبرها بالأبواء ثم قام مستعبرا فقال : إني استأذنت ربي في زيارة قبر أمي فأذن لي واستأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لي فنزلت . وهذا أصح لأن موت أبي طالب كان قبل الهجرة وهذا آخر ما نزل بالمدينة . وقيل : استغفر لأبيه . وقيل : قال المسلمون ما يمنعنا أن نستغفر لآبائنا وذوي قرابتنا وقد استغفر إبراهيم لأبيه وهذا محمد يستغفر لعمه " ما كان للنبي " ما صح له الاستغفار في حكم الله وحكمته " من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم " لأنهم ماتوا على الشرك .
" وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم " .
قرأ طلحة وما استغفر إبراهيم لأبيه وعنه : وما يستغفر إبراهيم على حكاية الحال الماضية " إلا عن موعدة وعدها إياه " أي وعدها إبراهيم أباه وهو قوله : " لأستغفرن لك " الممتحنة : 4 ، ويدل عليه قراءة الحسن وحماد الراوية : وعدها أباه . فإن قلت : كيف خفي على إبراهيم أن الاستغفار للكافر غير جائز حتى وعده ؟ قلت : يجوز أن يظن أنه ما دام يرجى منه الإيمان جاز الاستغفار له على أن امتناع جواز الاستغفار للكافر إنما علم بالوحي لأن العقل يجوز أن يغفر الله للكافر . ألا ترى إلى قوله عليه السلام لعمه : لأستغفرن لك ما لم أنه . وعن الحسن قيل لرسول الله A : إن فلانا يستغفر لآبائه المشركين فقال : ونحن نستغفر لهم فنزلت . وعن علي Bه : رأيت رجلا يستغفر لأبويه وهما مشركان فقلت له فقال : أليس قد استغفر إبراهيم . فإن قلت : فما معنى قوله : " فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه " ؟ قلت : معناه : فلما تبين له من جهة الوحي أنه لن يؤمن وأنه يموت كافرا وانقطع رجاؤه عنه قطع استغفاره فهو كقوله : " من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم " التوبة : 113 ، . " أواه " فعال من أوه كلأل من اللؤلؤ وهو الذي يكثر التأوه . ومعناه أنه لفرط ترحمه ورقته وحلمه كان يتعطف على أبيه الكافر ويستغفر له مع شكاسته عليه وقوله : لأرجمنك .
" ما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون إن الله بكل شيء عليم إن الله له ملك السموات والأرض يحيي ويميت وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير " .
يعني ما أمر الله باتقائه واجتنابه كالاستغفار للمشركين وغيره مما نهى عنه وبين أنه محظور لا يؤاخذ به عباده الذين هداهم للإسلام ولا يسميهم ضلالا ولا يخذلهم إلا إذا أقدموا عليه بعد بيان خطره عليهم وعلمهم أنه واجب الاتقاء والاجتناب . وأما قبل العلم والبيان فلا سبيل عليهم كما لا يؤاخذون بشرب الخمر ولا ببيع الصاع بالصاعين قبل التحريم . وهذا بيان لعذر من خاف المؤاخذة بالاستغفار للمشركين قبل ورود النهي عنه . وفي هذه الآية شديدة ما ينبغي أن يغفل عنها : وهي أن المهدي للإسلام إذا أقدم على بعض محظورات الله داخل في حكم الإضلال والمراد بما يتقون : ما يجب اتقاؤه للنهي فأما ما يعلم بالعقل كالصدق في الخبر ورد الوديعة فغير موقوف على التوقيف .
" لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم " .
" لقد تاب الله على النبي " كقوله : " ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر " الفتح : 2 ، وقوله : " واستغفر لذنبك " وهو بعث للمؤمنين على التوبة وأنه ما من مؤمن إلا وهو محتاج إلى التوبة والاستغفار حتى النبي والمهاجرون والأنصار وإبانة لفضل التوبة ومقدارها عند الله وأن صفة التوابين الأوابين صفة الأنبياء كما وصفهم بالصالحين ليظهر فضيلة الصلاح . وقيل : معناه تاب الله عليه من إذنه للمنافقين في التخلف عنه كقوله : " عفا الله عنك " التوبة : 43 ، " في ساعة العسرة " في وقتها والساعة مستعملة في معنى الزمان المطلق كما استعملت الغداة والعشية واليوم : .
غداة طفت علماء بكر بن وائل .
وكنا حسبنا كل بيضاء شحمة ... عشية قارعنا جذام وحميرا .
إذا جاء يوما وارثي يبتغي الغنى ... يجد جمع كف غير ملأى ولا صفر