وعلى الوجه الأول لا يخلو من أن يكون كلاما مبتدأ أو صفة لمنافقون فصل بينها وبينه بمعطوف على خبره " مردوا على النفاق " تمهروا فيه من مرن فلان عمله ومرد إليه : إذا درب به وضرى حتى لأن عليه ومهر فيه ودل على مرانتهم عليه ومهارتهم فيه بقوله : " لا تعلمهم " أي يخفون عليك مع فطنتك وشهامتك وصدق فراستك ورض تنوقهم في تحامي ما يشكك في أمرهم ثم قال : " نحن نعلمهم " أي لا يعلمهم إلا الله ولا يطلع على سرهم غيره لأنهم يبطنون الكفر في سويداوات قلوبهم إبطانا ويبرزون لك ظاهرا كظاهر المخلصين من المؤمنين لا تشك معه في إيمانهم وذلك أنهم مردوا على النفاق وضروا به فلهم فيه اليد الطولى " سنعذبهم مرتين " قيل : هما القتل وعذاب القبر . وقيل : الفضيحة وعذاب القبر . وعن ابن عباس Bه أنهم اختلفوا في هاتين المرتين فقال : قام رسول الله A خطيبا يوم الجمعة فقال : " اخرج يا فلان فإنك منافق اخرج يا فلان فإنك منافق " فأخرج ناسا وفضحهم فهذا العذاب الأول والثاني عذاب القبر . وعن الحسن : أخذ الزكاة من أموالهم ونهك أبدانهم " إلى عذاب عظيم " إلى عذاب النار .
" وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم " .
" اعترفوا بذنوبهم " أي لم يعتذروا من تخلفهم بالمعاذير الكاذبة كغيرهم ولكن اعترفوا على أنفسهم بأنهم بئس ما فعلوا متذممين نادمين وكانوا ثلاثة : أبو لبابة مروان بن عبد المنذر وأوس بن ثعلبة ووديعة بن حزام . وقيل : كانوا عشرة فسبعة منهم أوثقوا أنفسهم بلغهم ما نزل في المتخلفين فأيقنوا بالهلاك فأوثقوا أنفسهم على سواري المسجد فقدم رسول الله A فدخل المسجد فصلى ركعتين وكانت عادته A كلما قدم من سفر فرآهم موثقين فسأل عنهم فذكر له أنهم أقسموا أن لا يحلوا أنفسهم حتى يكون رسول الله A هو الذي يحلهم فقال : وأنا أقسم أن لا أحلهم حتى أومر فيهم فنزلت فأطلقهم وعذرهم فقالوا : يا رسول الله هذه أموالنا التي خلفتنا عنك فتصدق بها وطهرنا فقال : ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا فنزلت : خذ من أموالهم " عملا صالحا " خروجا إلى الجهاد " وآخر سيئا " تخلفا عنه . عن الحسن وعن الكلبي : التوبة والإثم . فإن قلت : قد جعل كل واحد منهما مخلوطا فما المخلوط به قلت : كل واحد منهما مخلوط ومخلوط به ؟ لأن المعنى خلط كل واحد منهما الآخر كقولك : خلطت الماء واللبن تريد : خلطت كل واحد منهما بصاحبه . وفيه ما ليس في قولك : خلطت الماء باللبن ؟ لأنك جعلت الماء مخلوطا واللبن مخلوطا به وإذا قلته بالواو وجعلت الماء واللبن مخلوطين ومخلوطا بهما كأنك قلت : خلطت الماء باللبن واللبن بالماء ويجوز أن يكون من قولهم : بعت الشاة شاة ودرهما بمعنى شاة بدرهم . فإن قلت : كيف قيل : " أن يتوب عليهم " وما ذكرت توبتهم ؟ قلت : إذا ذكر اعترافهم بذنوبهم وهو دليل على التوبة فقد ذكرت توبتهم .
" خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم " .
" تطهرهم " صفة لصدقة . وقرئ : تطهرهم من أطهره بمعنى طهره . وتطهرهم بالجزم جوابا للأمر . ولم يقرأ " وتزكيهم " إلا بإثبات الياء . والتاء في " تطهرهم " للخطاب أو لغيبة المؤنث . والتزكية : مبالغة في التطهير وزيادة فيه أو بمعنى الإنماء والبركة في المال " وصل عليهم " واعطف عليم بالدعاء لهم وترحم والسنة أن يدعو المصدق لصاحب الصدقة إذا أخذها . وعن الشافعي رحمه الله : أحب أن يقول الوالي عند أخذ الصدقة : أجرك الله فيما أعطيت وجعله طهورا وبارك لك فيما أبقيت . وقرئ : إن صلاتك على التوحيد " سكن لهم " يسكنون إليه وتطمئن قلوبهم بأن الله قد تاب عليهم " والله سميع " يسمع اعترافهم بذنوبهم ودعاءهم " عليم " بما في ضمائرهم والغنم من الندم لما فرط منهم .
" ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وإن الله هو التواب الرحيم "