ولما وبخهم الله على ترك القتال جرد لهم الأمر به فقال : " قاتلوهم " ووعدهم ليثبت قلوبهم وبصحح نياتهم أنه يعذبهم بأيديهم قتلا ويخزيهم أسرا ويوليهم النصر والغلبة عليهم " ويشف صدور " طائفة من المؤمنين وهم خزاعة قال ابن عباس Bه : هم بطون من اليمن وسبأ قدموا مكة فأسلموا فلقوا من أهلها أذى شديدا فبعثوا إلى لرسول الله A يشكون إليه فقال : أبشروا فإن الفرج قريب " ويذهب غيظ " قلوبكم لما لقيتم منهم من مكروه وقد حصل الله لهم هذه المواعيد كلها فكان ذلك دليلا على صدق رسول الله A وصحة نبوته " ويتوب الله على من يشاء " ابتداء كلام وإخبار بأن بعض أهل مكة يتوب عن كفره وكان ذلك أيضا فقد أسلم ناس منهم وحسن إسلامهم وقرئ : ويتوب بالنصب بإضمار أن ودخول التوبة في جملة ما أجيب به الأمر من طريق المعنى " والله عليم " يعلم ما سيكون كما يعلم ما قد كان " حكيم " لا يفعل إلا ما اقتضته الحكمة .
" أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون " .
" أم " منقطعة ومعنى الهمزة فيها التوبيخ على وجود الحسبان . والمعنى : أنكم لا تتركون على ما أنتم عليه حتى يتبين الخلص منكم وهم الذين جاهدوا في سبيل الله لوجه الله ولم يتخذوا وليجة أي بطانة من الذين يضادون رسول الله A والمؤمنين رضوان الله عليهم " ولما " معناها التوقع وقد دلت على أن تبين ذلك وإيضاحه متوقع كائن وأن الذين لم يخلصوا دينهم لله يميز بينهم وبين المخلصين . وقوله : " لم يتخذوا " معطوف على جاهدوا داخل في حيز الصلة كأنه قيل : ولما يعلم الله المجاهدين منكم المخلصين غير المتخذين وليجة من دون الله . والوليجة : فعيلة من ولج كالدخيلة من دخل . والمراد بنفي العلم نفي المعلوم كقول القائل . ما علم الله مني ما قيل في يريد : ما وجد ذلك مني .
" ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون " .
" ما كان للمشركين " ما صح لهم وما استقام " أن يعمروا مساجد الله " يعني المسجد الحرام لقوله : " وعمارة المسجد الحرام " وأما القراءة بالجمع ففيها وجهان أحدهما : أن يراد المسجد الحرام وإنما قيل مساجد لأنه قبلة المساجد كلها وإمامها ؟ فعامره كعامر جميع المساجد ولأن كل بقعة منه مسجد . والثاني : أن يراد جنس المساجد وإذا لم يصلحوا لأن يعمروا جنسها دخل تحت ذلك أن لا يعمروا المسجد الحرام الذي هو صدر الجنس ومقدمته وهو آكد لأن طريقته طريقة الكناية كما لو قلت : فلان لا يقرأ كتب الله كنت أنفى لقراءته القرآن من تصريحك بذلك . و " شاهدين " حال من الواو في " يعمروا " والمعنى : ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متنافيين : عمارة متعبدات الله مع الكفر بالله وبعبادته . ومعنى شهادتهم على أنفسهم بالكفر : ظهور كفرهم وأنهم نصبوا أصنامهم حول البيت وكانوا يطوفون عراة ويقولون : لا نطوف عليها بثياب قد أصبنا فيها المعاصي وكلما طافوا بها شوطا سجدوا لها . وقيل : هو قولهم لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك . وقيل : قد أقبل المهاجرون والأنصار على أسارى بدر فعيروهم بالشرك فطفق علي بن أبي طالب Bه يوبخ العباس بقتال رسول الله A وقطيعة الرحم وأغلظ له في القول . فقال العباس : تذكرون مساوينا وتكتمون محاسننا . فقال : أو لكم محاسن قالوا : نعم ونحن أفضل منكم أجرا . إنا لنعمر المسجد الحرام . ونحجب الكعبة ونسقي الحجيج ونفك العاني فنزلت " حبطت أعمالهم " التي هي العمارة والحجابة والسقاية وفك العناة . وإذا هدم الكفر أو الكبيرة الأعمال الثابتة الصحيحة إذا تعقبها فما ظنك بالمقارن . وإلى ذلك أشار في قوله : " شاهدين " حيث جعله حالا عنهم ودل على أنهم قارنون بين العمارة والشهادة بالكفر على أنفسهم في حال واحدة وذلك محال غير مستقيم .
" إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين "