" تأذن ربك " عزم ربك وهو تفعل من الإيذان وهو الإعلام لأن العازم على الأمر يحدث نفسه به ويؤذنها بفعله وأجرى مجرى فعل القسم كعلم الله وشهد الله . ولذلك أجيب بما يجاب به القسم وهو قوله : " ليبعثن " والمعنى : وإذ حتم ربك وكتب على نفسه ليبعثن على اليهود " إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب " فكانوا يؤدون الجزية إلى المجوس إلى أن بعث الله محمدا A فضربها عليهم فلا تزال مضروبة عليهم إلى آخر الدهر . ومعنى ليبعثن عليهم ليسلطن عليهم كقوله . " بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد " الإسراء : 5 .
" وقطعناهم في الأرض أمما منهم الصالحون ومنهم دون ذلك وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا تقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون " .
" وقطعناهم في الأرض أمما " وفرقناهم فيها فلا يكاد يخلوا بلد من فرقة منهم " منهم الصالحون " الذين آمنوا منهم بالمدينة أو الذين وراء الصين " ومنهم دون ذلك " ومنهم ناس دون ذلك الوصف منحطون عنه وهم الكفرة والفسقة . فإن قلت : ما محل دون ذلك ؟ قلت : الرفع وهو صفة لموصوف محذوف معناه : ومنهم ناس منحطون عن الصلاح ونحوه " وما منا إلا له مقام معلوم " الصافات : 64 ، بمعنى : وما منا أحد إلا له مقام " وبلوناهم بالحسنات والسيئات " بالنعم والنقم " لعلهم يرجعون " فينيبون " فخلف " من بعد المذكورين " خلف " وهم الذين كانوا في زمن رسول الله A " ورثوا الكتاب " التوراة بقيت في أيديهم بعد سلفهم يقرؤنها ويقفون على ما فيها من الأوامر والنواهي والتحليل والتحريم ولا يعملون بها " يأخذون عرض هذا الأدنى " أي حطام هذا الشيء الأدنى يريد الدنيا وما يتمتع به منها . وفي قوله : " هذا الأدنى " تخسيس وتحقير . والأدنى : إما من الدنو بمعنى القرب لأنه عاجل قريب وإما من دنو الحال وسقوطها وقلتها والمراد : ما كانوا يأخذونه من الرشا في الأحكام على تحريف الكلم للتسهيل على العامة " ويقولون سيغفر لكم " لا يؤاخذنا الله بما أخذنا . وفاعل " سيغفر " الجار والمجرور وهو " لنا " ويجوز أن يكون الأخذ الذي هو مصدر يأخذون " وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه " الواو للحال أي يرجون المغفرة وهم مصرون عائدون إلى مثل فعلهم غير تائبين . وغفران الذنوب لا يصح إلا بالتوبة والمصر لا غفران له " ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب " يعني قوله في التوراة : من ارتكب ذنبا عظيما فإنه لا يغفر له إلا بالتوبة " ودرسوا ما فيه " في الكتاب من اشتراط التوبة في غفران الذنوب والذي عليه المجبرة هو مذهب اليهود بعينه كما ترى . وعن مالك بن دينار رحمه الله : يأتي على الناس زمان إن قصروا عما أمروا به قالوا : سيغفر لنا لأنا لم نشرك بالله شيئا كل أمرهم إلى الطمع خيارهم فيهم المداهنة فهؤلاء من هذه الأمة أشباه الذين ذكرهم الله وتلا الآية . " والدار الآخرة خير " من ذلك العرض الخسيس " للذين يتقون " الرضا ومحارم الله . وقرئ : ورثوا الكتاب وإلا تقولوا بالتاء . وادارسو بمعنى تدارسوا . وأفلا تعقلون بالياء والتاء . فإن قلت : ما موقع قوله : " ألا يقولوا على الله إلا الحق " ؟ قلت : هو عطف بيان لميثاق الكتاب . ومعنى ميثاق الكتاب . الميثاق المذكور في الكتاب . وفيه أن إثبات المغفرة بغير توبة خروج عن ميثاق الكتاب وافتراء على الله . وتقول عليه ما ليس بحق . وإن فسر ميثاق الكتاب بما تقدم ذكره كان " أن لا يقولوا " مفعولا له . ومعناه : لئلا يقولوا . ويجوز أن تكون " أن مفسرة و " لا تقولوا " نهيا كأنه قيل : ألم يقل لهم لا تقولوا على الله إلا الحق ؟ فإن قلت : علام عطف قوله : " ودرسوا ما فيه " ؟ قلت : على " ألم يؤخذ عليهم " لأنه تقرير فكأنه قيل : أخذ عليم ميثاق الكتاب ودرسوا ما فيه .
" والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين "