وإذا علم الناهي حال المنهي وأن النهي لا يؤثر فيه سقط عنه اللهي وربما وجب الترك لدخوله في باب العبث . ألا ترى أنك لو ذهبت إلى المكاسين القاعدين على المآصر والجلادين المرتبين للتعذيب لتعظهم وتكفهم عما هم فيه كان ذلك عبثا منك ولم يكن إلا سببا للتلهي بك . وأما الآخرون فإنما لم يعرضوا عنهم إما لأن يأسهم لم يستحكم كما استحكم يأس الأولين ولم يخبروهم كما خبروهم أو لفرط حرصهم وجدهم في أمرهم كما وصف الله تعالى رسوله E في قوله : " فلعلك باخع نفسك " الكهف : 6 ، وقيل : الأمة هم الموعوظون لما وعظوا قالوا للواعظين : لم تعظون منا قوما تزعمون أن الله مهلكهم أو معذبهم ؟ وعن ابن عباس Bه أنه قال : يا ليت شعري ما فعل بهؤلاء الذين قالوا : لم تعظون قوما ؟ قال عكرمة : فقلت : جعلني الله فداك ألا ترى أنهم كرهوا ما هم عليه وخالفوهم وقالوا : لم تعظون قوما الله مهلكهم فلم أزل به حتى عرفته أنهم قد نجوا . وعن الحسن : نجت فرقتان وهلكت فرقة وهم الذين أخذوا الحيتان . وروي : أن اليهود أمروا باليوم الذي أمرنا به وهو يوم الجمعة فتركوه واختاروا يوم السبت فابتلوا به وحرم عليهم فيه الصيد وأمروا بتعظيمه فكانت الحيتان تأتيهم يوم السبت شرعا بيضا سمانا كأنها المخاض لا يرى الماء من كثرتها ويوم لا يسبتون لا تأتيهم فكانوا كذلك برهة من الدهر ثم جاءهم إبليس فقال لهم : إنما نهيتم عن أخذها يوم السبت فاتخذوا حياضا تسوقون الحيتان إليها يوم السبت فلا تقدر على الخروج منها . وتأخذونها يوم الأحد وأخذ رجل منهم حوتا وربط في ذنبه خيطا إلى خشبة في الساحل ثم شواه يوم الأحد فوجد جاره ريح السمك فتطلع في تنوره فقال له : إني أرى الله سيعذبك فلما لم يره عذب أخذ في السبت القابل حوتين فلما رأوا أن العذاب لا يعاجلهم صادوا وأكلوا وملحوا وباعوا وكانوا نحوا من سبعين ألفا فصار أهل القرية أثلاثا ثلث نهوا وكانوا نحوا من اثني عشر ألفا وثلث قالوا : لم تعظون قوما ؟ وثلث هم أصحاب الخطيئة . فلما لم ينتهوا قال المسلمون : إنا لا نساكنكم فقسموا القرية بجدار : للمسلمين باب وللمعتدين باب . ولعنهم داود عليه السلام فأصبح الناهون ذات يوم في مجالسهم ولم يخرج من المعتدين أحد فقالوا : إن للناس شأنا فعلوا الجدار فنظروا فإذا قردة ففتحوا الباب ودخلوا عليهم فعرفت القرود أنسباءها من الأنس والأنس لا يعرفون أنسباءهم من القرود فجعل القرد يأتي نسيبه فيشم ثيابه ويبكي فيقول : ألم ننهك فيقول برأسه : بلى وقيل : صار الشباب قردة والشيوخ خنازير . وعن الحسن : أكلوا والله أوخم أكلة أكلها أهلها أثقلها خزيا في الدنيا وأطولها عذابا في الآخرة هاه وايم الله وما حوت أخذه قوم فأكلوه أعظم عند الله من قتل رجل مسلم . ولكن الله جعل موعدا والساعة أدهى وأمر " بئس " شديد . يقال : بؤس يبؤس بأسا إذا اشتد فهو بئيس . وقرئ : بئس بوزن حذر . وبئس على تخفيف العين ونقل حركتها إلى الفاء . كما يقال : في كبد في كبد . وبيس على قلب الهمزة ياء كذيب في ذئب وبيئس على فيعل بكسر الهمزة وفتحها وبيس بوزن ريس على قلب همزة بيئس ياء وإدغام الياء فيها وبيس على تخفيف بيس كهين في هين . وبائس على فاعل " فلما عتوا عما نهوا عنه " فلما تكبروا عن ترك ما نهوا عنه كقوله : " عتوا عن أمر ربهم الأعراف : 77 ، " قلنا لهم كونوا قردة " عبارة عن مسخهيم قردة كقوله : " إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون " ياسين : 82 ، والمعنى : أن الله تعالى عذبهم أولا بعذاب شديد فعتوا بعد ذلك فمسخهم . وقيل : فلما عتوا تكرير لقوله : " فلما نسوا " والعذاب البئيس : هو المسخ .
" وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم "