كان يقال لشعيب عليه السلام خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه وكانوا أهل بخس للمكاييل والموازين " قد جاءتكم بينة من ربكم " معجزة شاهدة بصحة نبوتي أوجبت عليكم الإيمان بي والأخذ بما آمركم به والانتهاء عما أنهاكم عنه فأوفوا ولا تبخسوا . فإن قلت : ما كانت معجزته ؟ قلت : قد وقع العلم بأنه كانت له معجزة لقوله : " قد جاءتكم بينة من ربكم " ولأنه لا بد لمدعي النبوة من معجزة تشهد له وتصدقه وإلا لم تصح دعواه وكان متنبئا لا نبيا غير أن معجزته لم تذكر في القرآن كما لم تذكر أكثر معجزات نبينا A فيه . ومن معجزات شعيب عليه السلام : ما روي من محاربة عصى موسى عليه السلام التنين حين دفع إليه غنمه . وولادة الغنم الدرع خاصة حين وعده أن تكون له الدرع من أولادها ووقوع عصى آدم عليه السلام على يده في المرات السبع وغير ذلك من الآيات لأن هذه كلها كانت قبل أن يستنبأ موسى عليه السلام فكانت معجزات لشعيب . فإن قلت : كيف قيل : " الكيل والميزان " وهلا قيل : المكيال والميزان كما في سورة هود عليه السلام ؟ قلت : أريد بالكيل : آلة الكيل وهو المكيال أو سمي ما يكال به الكيل كما قيل : العيش لما يعاش به . أو أريد : فأوفوا الكيل ووزن الميزان . ويجوز أن يكون الميزان كالميعاد والميلاد بمعنى المصدر ويقال : بخسته حقه : إذا نقصته إياه . ومنه قيل للمكس : البخس وفي أمثالهم : تحسبها حمقاء وهي باخس . وقيل : " أشياءهم " لأنهم كانوا يبخسون الناس كل شيء في مبايعاتهم أو كانوا مكاسين لا يدعون شيئا إلا مكسوه كما يفعل أمراء الحرمين . وروي : أنهم كانوا إذا دخل الغريب بلدهم أخذوا دراهمه الجياد وقالوا هي زيوف فقطعوها قطاعا ثم أخذوها بنقصان ظاهر أو أعطوه بدلها زيوفا " بعد إصلاحها " بعد الإصلاح فيها أي لا تفسدوا فيها بعدما أصلح فيها الصالحون من الأنبياء وأتباعهم العاملين بشرائعهم . وإضافة قوله : " بل مكر الليل والنهار " سبأ : 33 ، بمعنى بل مكركم في الليل والنهار أو بعد إصلاح أهلها على حذف المضاف " ذلكم " إشارة إلى ما ذكر من الوفاء بالكيل والميزان وترك البخس والإفساد في الأرض أو إلى العمل بما أمرهم به ونهاهم عنه . ومعنى : " خير لكم " يعني في الإنسانية وحسن الأحدوثة وما تطلبونه من التكسب والتربح لأن الناس أرغب في متاجرتكم إذا عرفوا منكم الأمانة والسوية " إن كنتم مؤمنين " إن كنتم مصدقين لي في قولي ذلكم خير لكم " ولا تقعدوا بكل صراط " ولا تقتدوا بالشيطان في قوله : " لأقعدن لهم صراطك المستقيم " الأعراف : 16 ، فتقعدوا بكل صراط أي بكل منهاج من مناهج الدين . والدليل على أن المراد بالصراط سبيل الحق قوله : " وتصدون عن سبيل الله " ومحل " توعدون " وما عطف عليه : النصب على الحال أي : ولا تقعدوا موعدين وصادين عن سبيل الله وباغيها عوجا . فإن قلت : صراط الحق واحد " وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله " الأنعام : 153 ، فكيف قيل : بكل صراط ؟ قلت : صراط الحق واحد ولكنه يتشعب إلى معارف وحدود وأحكام كثيرة مختلفة فكانوا إذا رأوا أحدا يشرع في شيء منها أو عدوه وصدوه . فإن قلت ؟ إلام يرجع الضمير في " آمن به " قلت : إلى كل صراط . تقديره : توعدون من آمن به وتصدون عنه فوضع الظاهر الذي هو سبيل الله موضع الضمير زيادة في تقبيح أمرهم ودلالة على عظم ما يصدون عنه . وقيل : كانوا يجلسون على الطرق والمراصد فيقولون لمن مر بهم إن شعيبا كذاب فلا يفتنكم عن دينكم كما كان يفعل قريش بمكة . وقيل : كانوا يقطعون الطرق . وقيل : كانوا عشارين " وتبغونها عوجا " وتطلبون لسبيل الله عوجا أي تصفونها للناس بأنها سبيل معوج غير مستقيمة لتصدوهم عن سلوكها والدخول فيها : أو يكون تهكما بهم وأنهم يطلبون لها ما هو محال لأن طريق الحق لا يعوج " واذكروا إذ كنتم قليلا " إذ مفعول به غير ظرف . أي : واذكروا على جهة الشكر وقت كونكم قليلا عددكم " فكثركم " الله ووفر عددكم . قيل : إن مدين بن إبراهيم تزوج بنت لوط فولدت فرمى الله في نسلها بالبركة والنماء فكثروا وفشوا . ويجوز إذ كنتم مقلين فقراء فكثركم : فجعلكم مكثرين موسرين . أو كنتم أقلة أذلة فأعزكم بكثرة العدد والعدد " عاقبة المفسدين " آخر أمر من أفسد قبلكم من الأمم كقوم نوح وهود وصالح ولوط وكانوا قريبي العهد مما أصاب