من في قوله : " وما من إله إلا إله واحد " للاستغراق وهي القدرة مع لا التي لنفي الجنس في قولك : لا إله إلا الله والمعنى : وما إله قط في الوجود إلا إله موصوف بالوحدانية لا ثاني له وهو الله وحده لا شريك له و من في قوله : " ليمسن الذين كفروا منهم " للبيان كالتي في قوله تعالى : " فاجتنبوا الرجس من الأوثان " الحج : 30 ، فإن قلت : فهلا قيل : ليمسنهم عذاب أليم . قلت : في إقامة الظاهر مقام المضمر فائدة وهي تكرير الشهادة عليهم بالكفر في قوله : " لقد كفر الذين قالوا " وفي البيان فائدة أخرى وهي الإعلام في تفسير الذين كفروا منهم أنهم بمكان من الكفر . والمعنى : ليسمن الذين كفروا من النصارى خاصة " عذاب أليم " أي نوع شديد الألم من العذاب كما تقول : أعطني عشرين من الثياب تريد من الثياب خاصة لا من غيرها من الأجناس التي يجوز أن يتناولها عشرون . ويجوز أن تكون للتبعيض على معنى : ليمسن الذين بقوا على الكفر منهم لأن كثيرا منهم تابوا من النصرانية " أفلا يتوبون " ألا يتوبون بعد هذه الشهادة المكررة عليهم بالكفر . وهذا الوعيد الشديد مما هم عليه . وفيه تعجيب من إصرارهم " والله غفور رحيم " يغفر لهؤلاء إن تابوا ولغيرهم " قد خلت من قبله الرسل " صفة لرسول أي ما هو إلا رسول من جنس الرسل الذين خلوا من قبله جاء بآيات من الله كما أتوا بأمثالها أن أبرأ الله الأبرص وأحيا الموتى على يده فقد أحيا العصا وجعلها حية تسعى وفلق بها البحر وطمس على يد موسى . وإن خلقه من غير ذكر فقد خلق آدم من غير ذكر ولا أنثى " وأمه صديقة " أي وما أمه أيضا إلا كصديقة كبعض النساء المصدقات للأنبياء المؤمنات بهم فما منزلتهما إلا منزلة بشرين : أحدهما نبي والآخر صحابي . فمن أين اشتبه عليكم أمرهما حتى وصفتموهما بما لم يوصف به سائر الأنبياء وصحابتهم ؟ مع أنه لا تميز ولا تفاوت بينهما وبينهم بوجه من الوجوه . ثم صرح ببعدهما عما نسب إليهما في قوله : " كانا يأكلان الطعام " لأن من احتاج إلى الاغتذاء بالطعام وما يتبعه من الهضم والنفض لم يكن إلا جسما مركبا من عظم ولحم وعروق وأعصاب وأخلاط وأمزجة مع شهوة وقرم وغير ذلك مما يدل على أنه مصنوع مؤلف مدبر كغيره من الأجسام " كيف نبين لهم الآيات " أي الأعلام من الأدلة الظاهرة على بطلان قولهم : " أنى يؤفكون " كيف يصرفون عن استماع الحق وتأمله . فإن قلت : ما معنى التراخي في قوله : ثم انظر ؟ قلت : معناه ما بين العجبين يعني أنه بين لهم الآيات بيانا عجيبا وأن إعراضهم عنها أعجب منه .
" قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم " " ما لا يملك " هو عيسى أي شيئا لا يستطيع أن يضركم بمثل ما يضركم به الله من البلايا والمصائب في الأنفس والأموال ولا أن ينفعكم بمثل ما ينفعكم به من صحة الأبدان والسعة والخصب ولأن كل ما يستطيعه البشر من المضار والمنافع فبإقدار الله وتمكينه فكأنه لا يملك منه شيئا . وهذا دليل قاطع على أن أمره مناف للربوبية حيث جعله لا يستطيع ضرا ولا نفعا . وصفة الرب أن يكون قادرا على كل شيء لا يخرج مقدور على قدرته " والله هو السميع العليم " متعلق ب أتعبدون أي أتشركون بالله ولا تخشونه وهو الذي يسمع ما تقولون ويعلم ما تعتقدو أو أتعبدون العاجز والله هو السميع العليم الذي يصح منه أن يسمع كل مسموع ويعلم كل معلوم ولن يكون كذلك إلا وهو حي قادر .
" قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل " " غير الحق " صفة للمصدر أي لا تغلوا في دينكم غلوا غير الحق أي غلوا باطلا ؛ لأن الغلو في الدين غلوان غلو حق : وهو أن يفحص عن حقائقه ويفتش عن أباعد معانيه ويجتهد في تحصيل حججه كما يفعل المتكلمون من أهل العدل والتوحيد رضوان الله عليهم . وغلو باطل وهو أن يتجاوز الحق ويتخطاه بالإعراض عن الأدلة واتباع الشبه كما يفعل أهل الأهواء والبدع " قد ضلوا من قبل " هم أئمتهم في النصرانية كانوا على الضلال قبل مبعث النبي A " وأضلوا كثيرا " ممن شايعهم على التثليث " وضلوا " لما بعث رسول الله A " عن سواء السبيل " حين كذبوه وحسدوه وبغوا عليه