ويجوز أن يكون دعاء عليهم بغل الأيدي حقيقة يغللون في الدنيا أسارى وفي الآخرة معذبين بأغلال جهنم والطباق من حيث اللفظ وملاحظة أصل المجاز كما تقول : سبني سب الله دابره أي قطعه ؛ لأن السب أصله القطع . فإن قلت : كيف جاز أن يدعو الله عليهم بما هو قبيح وهو البخل والنكد ؟ قلت : المراد به الدعاء بالخذلان الذي تقسو به قلوبهم فيزيدون بخلا إلى بخلهم ونكدا إلى نكدهم أو بما هو مسبب عن البخل والنكد من لصوق العار بهم وسوء الأحدوثة التي تخزيهم وتمزق أعراضهم . فإن قلت : لم ثنيت اليد في قوله تعالى : " بل يداه مبسوطتان " وهي مفردة في " يد الله مغلولة " ؟ قلت : ليكون ردة قولهم وإنكاره أبلغ وأدل على إثبات غاية السخاء له ونفي البخل عنه . وذلك أن غاية ما يبذله السخي بماله من نفسه أن يعطيه بيديه جميعا فبني المجاز على ذلك . وقرئ : ولعنوا بسكون العين . وفي مصحف عبد الله : بل يداه بسطان . يقال : يده بسط بالمعروف . ونحوه مشية شحح وناقة صرح " ينفق كيف يشاء " تأكيد للوصف بالسخاء ودلالة على أنه لا ينفق إلا على مقتضى الحكمة والمصلحة . روي أن الله تبارك وتعالى كان قد بسط على اليهود حتى كانوا من أكثر الناس مالا فلما عصوا الله في محمد A وكذبوه كف الله تعالى ما بسط عليهم من السعة فعند ذلك قال فنحاص بن عازوراء : يد الله مغلولة ورضي بقوله الآخرون فأشركوا فيه " وليزيدن " أي يزدادون عند نزول القرآن لحسدهم تماديا في الجحود وكفروا بآيات الله " وألقينا بينهم العداوة " فكلمهم أبدا مختلف وقلوبهم شتى لا يقع اتفاق بينهم ولا تعاضد " كلما أوقدوا نارا " كلما أرادوا محاربة أحد غلبوا وقهرون ولم يقم لهم نصر من الله على أحد قط وقد أتاهم الإسلام في ملك المجوس . وقيل : خالفوا حكم التوراة فبعث الله عليهم بختنصر ثم أفسدوا فسلط الله عليهم فطرس الرومي ثم أفسدوا فسلط الله عليهم المجوس ثم أفسدوا فسلط عليهم المسلمين . وقيل : كلما حاربوا رسول الله A نصر عليهم . وعن قتادة Bه لا تلقى اليهود ببلدة إلا وجدتهم من أذل الناس " ويسعون " ويجتهدون في الكيد للإسلام ومحو ذكر رسول الله A من كتبهم .
" ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون " " ولو أن أهل الكتاب " مع ما عددنا من سيآتهم " آمنوا " برسول الله A وبما جاء به . وقرنوا إيمانهم بالتقوى التي هي الشريطة في الفوز بالإيمان " لكفرنا عنهم " تلك السيئات ولم نؤاخذهم بها " ولأدخلناهم " مع المسلمين الجنة . وفيه إعلام بعظم معاصي اليهود والنصارى وكثرة سيآتهم ودلالة على سعة رحمة الله تعالى وفتحه باب التوبة على كل عاص وإن عظمت معاصيه وبلغت مبالغ سيئات اليهود والنصارى وأن الإيمانلا ينجي ولا يسعد إلا مشفوعا بالتقوى كما قال الحسن : هذا العمود فأين الإطناب " ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل " أقاموا أحكامهما وحدودهما وما فيهما من نعت رسول الله A " وما أنزل إليهم " من سائر كتب الله لأنهم مكلفون الإيمان بجميعها فكأنها أنزلت إليهم ؛ وقيل : هو القرآن . لوسع الله عليهم الرزق وكانوا قد قحطوا . وقوله : " لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم " عبارة عن التوسعة . وفيه ثلاث أوجه : أن يفيض عليهم بركات السماء وبركات الأرض وأن يكثر الأشجار المثمرة والزروع المغلة أن يرزقهم الجنان اليانعة الثمار يجتنون ما تهدل منها من رؤوس الشجر ويلتقطون ما تساقط على الأرض من تحت أرجلهم " منهم أمة مقتصدة " طائفة حالها أمم في عداوة رسول الله A وقيل : هي الطائفة المؤمنة عبد الله بن سلام وأصحابه وثمانية وأربعون من النصارى و " ساء ما يعملون " فيه معنى التعجب كأنه قيل : وكثير منهم ما أسوأ عملهم وقيل : هم كعب بن الأشرف وأصحابه والروم .
" يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين "