" المستبان ما قالا فعلى البادي ما لم يعتد المظلوم " على أن البادي عليه إثم سبه ومثل إثم سب صاحبه ؛ لأنه كان سببا فيه إلا أن الإثم محطوط عن صاحبه معفو عنه لأنه مكافئ مدافع عن عرضه . ألا ترى إلى قوله : " ما لم يعتد المظلوم " لأنه إذا خرج من حد المكافأة واعتدى لم يسلم . فإن قلت : فحين كف هابيل عن قتل أخيه واستسلم وتحرج عما كان محظورا في شريعته من الدفع فأين الإثم حتى يتحمل أخوه مثله فيجتمع عليه الإثمان ؟ قلت : هو مقدر فهو يتحمل مثل الإثم المقدر كأنه قيل : إني أريد أن تبوء بمثل إثمي لو بسطت يدي إليك . وقيل : بإثمي بإثم قتلي وإثمك الذي من أجله لم يتقبل قربانك فإن قلت : فكيف جاز أن يريد شقاوة أخيه وتعذيبه بالنار ؟ قلت : كان ظالما وجزاء الظالم حسن جائز أن يراد . ألا ترى إلى قوله تعالى : " وذلك جزاء الظالمين " وإذا جاز أن يريده الله جاز أن يريده العبد ؛ لأنه لا يريد إلا ما هو حسن . والمراد بالإثم وبال القتل وما يجره من استحقاق العقاب فإن قلت : لم جاء الشرط بلفظ الفعل والجزاء بلفظ اسم الفاعل وهو قوله : " لئن بسطت...... ما أنا بباسط " ؟ قلت : ليفيد أنه لا يفعل ما يكتسب به هذا الوصف الشنيع . ولذلك أكده بالباء المؤكدة للنفي " فطوعت له نفسه قتل أخيه " فوسعته له ويسرته من طاع له المرتع : إذا اتسع . وقرأ الحسن : فطاوعت . وفيه وجهان : أن يكون مما جاء من فاعل بمعنى فعل وأن يراد أن قتل أخيه كأنه دعا نفسه إلى الإقدام عليه فطاوعته ولم تمتنع وله لزيادة الربط كقولك : حفظت لزيد ماله . وقيل : قتل وهو ابن عشرين سنة وكان قتله عند عقبة حراء وقيل : بالبصرة في موضع المسجد الأعظم " فبعث الله غرابا " روي : أنه أول قتيل قتل على وجه الأرض من بني آدم . ولما قتله تركه بالعراء لا يدري ما يصنع به فخاف عليه السباع فحمله في جراب على ظهره سنة حتى أروح وعكفت عليه السباع فبعث الله غرابين فاقتتلا فقتل أحدهما الآخر فحفر له بمنقاره ورجليه ثم ألقاه في الحفرة " قال يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب " ويروى أنه لما قتله اسود جسده وكان أبيض فسأله آدم عن أخيه فقال : ما كنت عليه وكيلا فقال : بل قتلته ولذلك اسود جسدك . وروي أن آدم مكث بعد قتله مائة سنة لا يضحك وأنه رثاه بشعر وهو كذب بحت وما الشعر إلا منحول ملحون . وقد صح أن الأنبياء عليهم السلام معصومون من الشعر . " ليريه " ليريه الله . أو ليريه الغراب أي ليعلمه ؛ لأنه لما كان سبب تعليمه فكأنه قصد تعليمه على سبيل المجاز " سوءة أخيه " عورة أخيه وما لا يجوز أن ينكشف من جسده . والسوأة : الفضيحة لقبحها . قال : .
يا لقوم للسوأة السوآء .
أي للفضيحة العظيمة فكنى بها عنها " فأواري " بالنصب على جواب الاستفهام . وقرئ بالسكون على : فأنا أواري . أو على التسكين في موضع النصب للتخفيف " من النادمين " على قتله لما تعب فيه من حمله وتحيره في أمره وتبين له من عجزه وتلمذه للغراب واسوداد لونه وسخط أبيه ولم يندم ندم التائبين " من أجل ذلك " بسبب ذلك وبعلته . وقيل : أصله من أجل شرا إذا جناه يأجله أجلا . ومنه قوله : .
وأهل خباء صالح ذات بينهم ... قد احتربوا في عاجل أنا آجله