تدبر الأمر : تأمله والنظر في إدباره وما يؤول إليه في عاقبته ومنتهاه ثم استعمل في كل تأمل ؛ فمعنى تدبر القرآن : تأمل معانيه وتبصر ما فيه " لوجدوا فيه اختلافا كثيرا " لكان الكثير منه مختلفا متناقضا قد تفاوت نظمه وبلاغته ومعانيه فكان بعضه بالغا حد الإعجاز وبعضه قاصرا عنه يمكن معارضته وبعضه إخبارا بغيب قد وافق المخبر عنه وبعضه إخبارا مخالفا للمخبر عنه وبعضه دالا على معنى صحيح عند علماء المعاني . وبعضه دالا على معنى فاسد غير ملتئم فلما تجاوب كله بلاغة معجزة فائتة لقوى البلغاء وتناصر صحة معان وصدق إخبار علم أنه ليس إلا من عند قادر على ما لا يقدر عليه غيره عالم بما لا يعلمه أحد سواه . فإن قلت : أليس نحو قوله : " فإذا هي ثعبان مبين " الأعراف : 107 ، " كأنها جان " النمل : 10 ، " فوربك لنسألنهم أجمعين " الحجر : 92 ، " فيومئذ لا يسئل عن ذنبه إنس ولا جان " الرحمن : 39 ، من الاختلاف ؟ قلت : ليس باختلاف عند المتدبرين .
" وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأسا وأشد تنكيلا " هم ناس من ضعفة المسلمين الذين لم تكن فيهم خبرة بالأحوال ولا استبطان للأمور . كانوا إذا بلغهم خبر عن سرايا رسول الله A من أمن وسلامة أو خوف وخلل " أذاعوا به " وكانت إذاعتهم مفسدة ولو ردوا ذلك الخبر إلى رسول الله A وإلى أولي الأمر منهم - وهم كبراء الصحابة البصراء بالأمور أو الذين كانوا يؤمرون منهم - " لعلمه " لعلم تدبير ما أخبروا به " الذين يستنبطونه " الذين يستخرجون تدبيره بفطنهم وتجاربهم ومعرفتهم بأمور الحرب ومكايدها . وقيل : كانوا يقفون من رسول الله A وأولي الأمر على أمن ووثوق بالظهور على بعض الأعداء أو على خوف واستشعار فيذيعونه فينتشر فيبلغ الأعداء فتعود إذاعتهم مفسدة . ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر وفوضوه إليهم وكانوا كأن لم يسمعوا لعلم الذين يستنبطون تدبيره كيف يدبرونه وما يأتون ويذرون فيه . وقيل : كانوا يسمعون من أفواه المنافقين شيئا من الخبر عن السرايا مظنونا غير معلوم الصحة فيذيعونه فيعود ذلك وبالا على المؤمنين . ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر وقالوا : نسكت حتى نسمعه منهم ونعلم هل هو مما يذاع أو لا يذاع لعلمه الذين يستنبطونه منهم لعلم صحته وهل هو مما يذاع أو لا يذاع هؤلاء المذيعون وهم الذين يستنبطونه من الرسول وأولي الأمر أي يتلقونه منهم ويستخرجون علمه من جهتهم . يقال : أذاع السر وأذاع به . قال : .
أذاع به في الناس حتى كأنه ... بعلياء نار أوقدت بثقوب .
ويجوز أن يكون المعنى فعلوا به الإذاعة وهو أبلغ من أذاعوه وقرئ لعلمه بإسكان اللام كقوله : .
فإن أهجه يضجر كما ضجر بازل ... من الأدم دبرت صفحتاه وغاربه