شبه ما كانوا ينفقون من أموالهم في المكارم والمفاخر وكسب الثناء وحسن الذكر بين الناس لا يبتغون به وجه الله بالزرع الذي حسه البرد فذهب حطاما . وقيل : هو ما كانوا يتقربون به إلى الله مع كفرهم . وقيل : ما أنفقوا في عداوة رسول الله A فضاع عنهم لأنهم لم يبلغو بإنفاقه ما أنفقوه لأجله . وشبه بحرث " قوم ظلموا أنفسهم " فأهلك عقوبة لهم على معاصيهم لأن الهلاك عن سخط أشد وأبلغ . فإن قلت : الغرض تشبيه ما أنفقوا في قلة جدواه وضياعه بالحرث الذي ضربته الصر والكلام غير مطابق للغرض حيث جعل ما ينفقون ممثلا بالريح . قلت : هو من التشبيه المركب الذي مر في تفسير قوله : " كمثل الذي استوقد نارا " البقرة : 17 ، ويجوز أن يراد : مثل إهلاك ما ينفقون مثل إهلاك ريح أو مثل ما ينفقون كمثل مهلك ريح وهو الحرث وقرئ : تنفقون بالتاء " وما ظلمهم الله " الضمير للمنفقين على معنى : وما ظلمهم الله بأن لم يقبل نفقاتهم ولكنهم ظلموا أنفسهم حيث لم يأتوا بها مستحقة للقبول أو لأصحاب الحرث الذين ظلموا أنفسهم أي : وما ظلمهم الله بإهلاك حرثهم ولكن ظلموا أنفسهم بارتكاب ما استحقوا به العقوبة . وقرئ : ولكن بالتشديد بمعنى ولكن أنفسهم يظلمونها هم . ولا يجوز أن يراد : ولكنه أنفسهم يظلمون على إسقاط ضمير الشأن لأنه إنما يجوز في الشعر .
" يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور " بطانة الرجل ووليجته : خصيصه وصفيه الذي يفضي إليه بشقوره ثقة به شبه ببطانة الثوب كما يقال : فلان شعاري . وعن النبي A " الأنصار شعار والناس دثار " " من دونكم " من دون أبناء جنسكم وهم المسلمون . ويجوز تعلقه بلا تتخذوا وببطانة على الوصف أي بطانة كائنة من دونكم مجاوزة لكم " لا يألونكم خبالا " يقال : ألا في الأمر يألو إذا قصر فيه ثم استعمل معدى إلى مفعولين في قولهم : لا ألوك نصحا ولا ألوك جهدا على التضمين . والمعنى : لا أمنعك نصحا ولا أنقصكه . والخبال : الفساد " ودوا ما عنتم " ودوا عنتكم على أن ما مصدرية . والعنت : شدة الضرر والمشقة . وأصله انهياض العظم بعد جبره أي تمنوا أن يضروكم في دينكم ودنياكم أشد الضرر وأبلغه " قد بدت البغضاء من أفواههم " لأنهم لا يتمالكون مع ضبطهم أنفسهم وتحاملهم عليها أن ينفلت من ألسنتهم ما يعلم به بغضهم للمسلمين . وعن قتادة قد بدت البغضاء لأوليائهم من المنافقين والكفار لإطلاع بعضهم بعضا على ذلك وفي قراءة عبد الله قد بدأ البغضاء " قد بينا لكم الآيات " الدالة على وجوب الإخلاص في الدين وموالاة أولياء الله ومعاداة أعدائه " إن كنتم تعقلون " ما بين لكم فعملتم به . فإن قلت : كيف موقع هذه الجمل ؟ قلت يجوز أن يكون " لا يألونكم " صفة للبطانة وكذلك " قد بدت البغضاء " كأنه قيل : بطانة غير آليكم خبالا بادية بغضاؤهم . وأما " قد بينا " فكلام مبتدأ وأحسن منه وأبلغ أن تكون مستأنفات كلها على وجه التعليل للنهي عن اتخاذهم بطانة " ها " للتنبيه . و " أنتم " مبتدأ . و " أولاء " خبره . أي أنتم أولاء الخاطئون في موالاة منافقي أهل الكتاب . وقوله : " تحبونهم ولا يحبونكم " بيان لخطئهم في موالاتهم حيث يبذلون محبتهم لأهل البغضاء . وقيل " أولاء " موصول " تحبونهم " صلته . والواو في " وتؤمنون " للحال وانتصابها من لا يحبونكم أي لا يحبونكم والحال أنكم تؤمنون بكتابهم كله وهم مع ذلك يبغضونكم . فما بالكم تحبونهم وهم لا يؤمنون بشيء من كتابكم . وفيه توبيخ شديد بأنهم في باطلهم أصلب منكم في حقكم . ونحوه " فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون " النساء : 104 ، ويوصف المغتاظ والنادم بعض الأنامل والبنان والإبهام قال الحرث بن ظالم المري : .
فأقتل أقواما لئاما أذلة ... يعضون من غيظ رؤوس الأباهم