" حبب إلي من دنياكم ثلاث : الطيب والنساء وقرة عيني في الصلاة " وقرأ ابن عباس وأبي ومجاهد وأبو جعفر المدني في رواية قتيبة : آية بينة على التوحيد . وفيها دليل على أن مقام إبراهيم واقع وحده عطف بيان . فإن قلت : كيف أجزت أن يكون مقام إبراهيم والأمن عطف بيان للآيات ؟ وقوله : " ومن دخله كان آمنا " جملة مستأنفة إما ابتدائية وإما شرطية ؟ قلت : أجزت ذلك من حيث المعنى لأن قوله : " ومن دخله كان آمنا " دل على أمن داخله فكأنه قيل : فيه آيات بينات : مقام إبراهيم وأمن داخله . ألا ترى أنك لو قلت : فيه آية بينة من دخله كان آمنا صح لأنه في معنى قولك : فيه آية بينة أمن من دخله . فإن قلت : كيف كان سبب هذا الأثر ؟ قلت : فيه قولان : أحدهما أنه لما ارتفع بنيان الكعبة وضعف إبراهيم عن رفع الحجارة قام على هذا الحجر فغاصت فيه قدماه . وقيل : إنه جاء زائرا من الشام إلى مكة فقالت له امرأة إسماعيل : انزل حتى يغسل رأسك فلم ينزل فجاءته بهذا الحجر فوضعته على شقه الأيمن فوضع قدمه عليه حتى غسلت شق رأسه ثم حولته إلى شقه الأيسر حتى غسلت الشق الآخر فبقي أثر قدميه عليه . ومعنى " ومن دخله كان آمنا " معنى قوله : " أو لم يروا أنا جعلنا ويتخطف الناس من حولهم " العنكبوت : 67 ، وذلك بدعوة إبراهيم عليه السلام " رب اجع هذا البلد منا " البقرة : 126 ، وكان الرجل لو جر كل جريرة ثم لجأ إلى الحرم لم يطلب . وعن عمر Bه لو ظفرت فيه بقاتل الخطاب ما مسسته حتى يخرج منه وعند أبي حنيفة : من لزمه القتل في الحل بقصاص أو ردة أو زنى فالتجأ إلى الحرم لم يتعرض له إلا أنه لا يؤوى ولا يطعم ولا يسقى ولا يبايع حتى يضطر إلى الخروج . وقيل : آمنا من النار . وعن النبي A " من مات في أحد الحرمين بعث يوم القيامة آمنا " وعنه E " الحجون والبقيع يؤخذ بأطرافهما وينثران في الجنة " وهما مقبرتا مكة والمدينة وعن ابن مسعود .
وقف رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم على ثنية الحجون وليس بها يومئذ مقبرة فقال " يبعث الله من هذه البقعة ومن هذا الحرم كله سبعين ألفا وجوههم كالقمر ليلة البدر يدخلون الجنة بغير حساب يشفع كل واحد منهم في سبعين ألفا وجوههم كالقمر ليلة البدر " وعن النبي A : " من صبر على حر مكة ساعة من نهار تباعدت منه جهنم مسيرة مائتي عام " " من استطاع " بدل من الناس . وروي : أن رسول الله A فسر الاستطاعة بالزاد والراحلة وكذا عن ابن عباس وابن عمر وعليه أكثر العلماء . وعن ابن الزبير : هو على قدر القوة . ومذهب مالك أن الرجل إذا وثق بقوته لزمه . وعنه : ذلك على قدر الطاقة وقد يجد الزاد والراحلة من لا يقدر على السفر وقد يقدر عليه من لا زاد له ولا راحلة وعن الضحاك : إذا قدر أن يؤجر نفسه فهو مستطيع . وقيل له في ذلك فقال : إن كان لبعضهم ميراث بمكة أكان يتركه ؟ بل كان ينطلق إليه ولو حبوا فكذلك يجب عليه الحج . والضمير في " إليه " للبيت أو للحج . وكل مأتي إلى الشيء فهو سبيل إليه وفي هذا الكلام أنواع من التوكيد والتشديد ؛ ومنها قوله : " ولله على الناس حج البيت " يعني أنه حق واجب لله في رقاب الناس لا ينفكون عن أدائه والخروج من عهدته . ومنها أنه ذكر الناس ثم أبدل عنه من استطاع إليه سبيلا وفيه ضربان من التأكيد : أحدهما أن الإبدال تثنية للمراد وتكرير له والثاني أن الإيضاح بعد الإبهام والتفصيل بعد الإجمال إيراد له في صورتين مختلفتين . ومنها قوله : " ومن كفر " مكان ومن لم يحج تغليظا على تارك الحج ؛ ولذلك قال رسول الله A : " من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا أو نصرانيا " ونحوه من التغليط " من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر " ومنها ذكر الاستغناء عنه وذلك مما يدل على المقت والسخط والخذلان ومنها قوله : " عن العالمين " وإن لم يقل عنه وما فيه من الدلالة على الاستغناء عنه ببرهان لأنه إذا استغنى عن العالمين تناوله الاستغناء لا محالة ولأنه يدل على الاستغناء الكامل فكان أدل على عظم السخط الذي وقع عبارة عنه . وعن سعيد بن المسيب : نزلت في اليهود فإنهم قالوا : الحج إلى مكة غير واجب وروى :