والمتقي في اللغة اسم فاعل من قولهم : وقاه فاتقى . والوقاية : فرط الصيانة . ومنه : فرس واق وهذه الدابة تقي من وجاها إذا أصابه ضلع من غلظ الأرض ورقة الحافر فهو يقي حافره أن يصيبه أدنى شيء يؤلمه . وهو في الشريعة الذي يقي نفسه تعاطي ما يستحق به العقوبة من فعل أو ترك . واختلف في الصغائر وقيل الصحيح أنه لا يتناولها لأنها تقع مكفرة عن مجتنب الكبائر . وقيل : يطلق على الرجل اسم المؤمن لظاهر الحال والمتقي لا يطلق إلا عن خبرة كما لا يجوز إطلاق لعدل إلا على المختبر . ومحل " هدى للمتقين " الرفع لأنه خبر مبتدأ محذوف أو خبر مع " لا ريب فيه " لذلك أو مبتدأ إذا جعل الظرف المقدم خبرا عنه . ويجوز أن ينصب على الحال والعامل فيه معنى الإشارة أو الظرف . والذي هو أرسخ عرقا في البلاغة أن يضرب عن هذه المحال صفحا . وأن يقال إن قوله : " آلم " جملة برأسها أو طائفة من حروف المعجم مستقلة بنفسها . و " ذلك الكتاب " جملة ثانية . و " لا ريب فيه " ثالثة .
" هدى للمتقين " رابعة . وقد أصيب بترتيبها مفصل البلاغة وموجب حسن النظم حيث جيء بها متناسقة هكذا من غير حرف نسق وذلك لمجيئها متآخية آخذا بعضها بعنق بعض . فالثانية متحدة بالأولى معتنقة لها وهلم جرا إلى الثالثة والرابعة . بيان ذلك أنه نبه أولا على أنه الكلام المتحدى به ثم أشير إليه بأنه الكتاب المنعوت بغاية الكمال . فكان تقريرا لجهة التحدي وشدا من أعضاده . ثم نفى عنه أن يتشبث به طرف من الريب فكان شهادة وتسجيلا بكماله لأنه لا كمال أكمل مما للحق واليقين ولا نقص أنقص مما للباطل والشبهة . وقيل لبعض العلماء : فيم لذتك فقال : في حجة تتبختر اتضاحا وفي شبهة تتضاءل افتضاحا . ثم أخبر عنه بأنه هدى للمتقين فقرر بذلك كونه يقينا لا يحوم الشك حوله وحقا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه . ثم لم تخل كل واحدة من الأربع بعد أن رتبت هذا الترتيب الأنيق ونظمت هذا النظم السري من نكتة ذات جزالة . ففي الأولى الحذف والرمز إلى الغرض بألطف وجه وأرشقه . وفي الثانية ما في التعريف من الفخامة . وفي الثالثة ما في تقديم الريب على الظرف . وفي الرابعة الحذف . ووضع المصدر الذي هو " هدى " موضع الوصف الذي هو " هاد " وإيراده منكرا . والإيجاز في ذكر المتقين .
زادنا الله اطلاعا على أسرار كلامه وتبيينا لنكت تنزيله وتوفيقا للعمل بما فيه .
" الذين يؤمنون ويقيمون الصلوة ومما رزقنهم ينفقون " " الذين يؤمنون " إما موصول بالمتقين على أنه صفة مجرورة أو مدح منصوب أو مرفوع بتقدير : أعني الذين يؤمنون أو هم الذين يؤمنون . وإما مقتطع عن المتقين مرفوع على الابتداء مخبر عنه " بأولئك على هدى " فإذا كان موصولا كان الوقف على المتقين حسنا غير تام وإذا كان مقتطعا كان وقفا تاما . فإن قلت : ما هذه الصفة أواردة بيانا وكشفا للمتقين . أم مسرودة مع المتقين تفيد غير فائدتها . أم جاءت على سبيل المدح والثناء كصفات الله الجارية عليه تمجيدا . قلت : يحتمل أن ترد على طريق البيان والكشف لاشتمالها على ما أسست عليه حال المتقين من فعل الحسنات وترك السيئات . أما الفعل فقد انطوى تحت ذكر الإيمان الذي هو أساس الحسنات ومنصبها وذكر الصلاة والصدقة ة لأن هاتين أما العبادات البدنية والمالية وهما العيار على غيرهما . ألم تر كيف سمى رسول الله A : " الصلاة عماد الدين " وجعل الفاصل بين الإسلام والكفر .
ترك الصلاة ؟ وسمى الزكاة قنطرة الإسلام . وقال الله تعالى : " وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة " فصلت فلما كانتا بهذه المثابة كان من شأنهما استجرار سائر العبادات واستتباعها . ومن ثم اختصر الكلام اختصارا بأن استغنى عن عد الطاعات بذكر ما هو كالعنوان لها والذي إذا وجد لم تتوقف أخواته أن تقترن به مع ما في ذلك من الإفصاح عن فضل هاتين العبادتين . وأما الترك فكذلك . ألا ترى إلى قوله تعالى : " إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر " العنكبوت