فإن كون الأمر مشكوكا فيه مما تقلق له النفس ولا تستقر . وكونه صحيحا صادقا مما تطمئن له وتسكن . ومنه : ريب الزمان وهو ما يقلق النفوس ويشخص بالقلوب من نوائبه . ومنه : أنه مر بظبي حاقف فقال : لايربه أحد بشيء . فإن قلت : كيف نفى الريب على سبيل الاستغراق . وكم من مرتاب فيه . قلت : ما نفى أن أحد لا يرتاب فيه وإنما المنفى كونه متعلقا للريب ومظنة له لأنه من وضوح الدلالة وسطوع البرهان بحيث لا ينبغي لمرتاب أن يقع فيه . ألاترى إلى قوله تعالى : " وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله " البقرة : فما أبعد وجود الريب منهم وإنما عرفهم الطريق إلى مزيل الريب وهو أن يحزروا أنفسهم ويروزوا قواهم في البلاغة هل تتم للمعارضة أم تتضاءل دونها فيتحققوا عند عجزهم أن ليس فيه مجال للشبهة ولا مدخل للريبة . فإن قلت : فهلا قدم الظرف على الريب كما قدم على الغول في قوله تعالى : " لا فيها غول " الصافات قلت : لأن القصد فى إيلاء الريب حرف النفي نفي الريب عنه واثبات أنه حق وصدق لا باطل وكذب كما كان المشركون يدعونه ولو أولى الظرف لقصد إلى ما يبعد عن المراد وهو أن كتابا آخر فيه الريب فيه كما قصد في قوله : " لا فيها غول " تفضيل خمر الجنة على خمور الدنيا بأنها لا تغتال العقول كما تغتالها هي كأنه قيل : ليس فيها ما في غيرها من هذا العيب والنقيصة وقرأ أبو الشعثاء : " لاريب فيه " بالرفع : والفرق بينها وبين المشهورة أن المشهورة توجب الاستغراق وهذه تجوزه . والوقف على فيه هو المشهور . وعن نافع وعاصم أنهما وقفا على لاريب ولا بد للواقف من أن ينوي خبرا . ونظيره قوله تعالى : " قالوا لاضير " الشعراء : وقول العرب : لا بأس وهي كثيرة في لسان أهل الحجاز . والتقدير : " لاريب فيه " .
فيه هدى الهدى مصدرعلى فعل كالسرى والبكى وهو الدلالة الموصلةإلى البغية بدليل وقوع الضلالة في مقابلته . قال الله تعالى : " أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى " البقرة : وقال تعالى : " لعلى هدى أو في ضلال مبين " سبأ : ويقال : مهدي في موضع المدح كمهتد ولأن اهتدى مطاوع هدى ولن يكون المطاوع في خلاف معنى أصله ألا ترى إلى نحو : غمه فاغتم وكسره فانكسر وأشباه ذلك : فإن قلت : فلم قيل : هدى للمتقين والمتقون مهتدون قلت : هو كقولك للعزيز المكرم : أعزك الله وأكرمك تريد طلب الزيادة إلى ما هو ثابت فيه واستدامته كقوله : " اهدنا الصراط المستقيم " . ووجه آخر وهو أنه سماهم عند مشارفتهم لاكتساء لباس التقوى : متقين كقول رسول الله A : " من قتل قتيلأفله سلبه " وعن ابن عباس : " إذا أراد أحدكم الحج فليعجل فإنه يمرض المريض وتضل الضالة وتكون الحاجة " فسمى المشارف للقتل والمرض والضلال : قتيلا ومريضا وضالا . ومنه قوله تعالى : " ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا " نوح : أي صائرا إلى الفجور والكفر . فإن قلت : فهلا قيل هدى للضالين . قلت : لأن الضالين فريقان : فريق علم بقاؤهم على الضلالة وهم المطبوع على قلوبهم وفريق علم أن مصيرهم إلى الهدى فلا يكون هدى للفريق الباقين على الضلالة فبقى أن يكون هدى لهؤلاء فلو جيء بالعبارة المفصحة عن ذلك لقيل : هدى للصائرين إلى الهدى بعد الضلال فاختصر الكلام بإجرائه على الطريقة التي ذكرنا فقيل : هدى للمتقين . وأيضافقد جعل ذلك سلما إلى تصدير السورة التي هي أولى الزهراوين وسنام القرآن وأول المثاني بذكر أولياء الله والمرتضين من عباده