" شرع لكم من الدين " دين نوح ومحمد ومن بينهما من الأنبياء ثم فسر المشروع الذي اشترك هؤلاء الأعلام من رسله فيه بقوله : " أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه " والمراد إقامة دين الإسلام الذي هو توحيد الله وطاعته والإيمان برسله وكتبه وبيوم الجزاء وسائر ما يكون الرجل بإقامته مسلما ولم يرد الشرائع التي هي مصالح الأمم على حسب أحوالها فإنها مختلفة متفاوتة . قال الله تعالى : " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا " المائدة : 48 ، ومحل " أن أقيموا " إما نصب بدل من مفعول شرع والمعطوفين عليه و رفع على الاستئناف كأنه قيل : وما ذلك المشروع . فقيل : هو إقامة الدين ونحوه قوله تعالى : " إن هذه أمتكم أمة واحدة " الأنبياء : 92 ، " كبر على المشركين " عظم عليهم وشق عليهم " ما تدعوهم إليه " من إقامة دين الله والتوحيد " يجتبي إليه " يجتلب إليه ويجمع . والضمير للدين بالتوفيق والتسديد " من يشاء " من ينفع فيهم توفيقه ويجري عليهم لطفا .
" وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب " .
" وما تفرقوا " يعني أهل الكتاب بعد أنبيائهم " إلا من بعد " أن علموا أن الفرقة ضلال وفساد وأمر متوعد عليه على ألسنة الأنبياء " ولولا كلمة سبقت من ربك " وهي عدة التأخير إلى يوم القيامة " لقضي بينهم " حين افترقوا لعظم ما اقترفوا " إن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم " وهم أهل الكتاب الذين كانوا في عهد رسول الله A " لفي شك " من كتابهم لا يؤمنون به حق الإيمان . وقيل : كان الناس أمة واحدة مؤمنين بعد أن أهلك الله أهل الأرض أجمعين بالطوفان فلما مات الآباء اختلف الأبناء فيما بينهم وذلك حين بعث الله إليهم النبيين مبشرين ومنذرين وجاءهم العلم . وإنما اختلفوا للبغي بينهم وقيل : وما تفرق أهل الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بمبعث رسول الله A كقوله تعالى : " وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة " البينة : 4 ، " إن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم " هم المشركون الذين أورثوا القرآن من بعد ما أورث أهل الكتاب التوراة والإنجيل . وقرئ ورثوا وورثوا .
" فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير " .
" فلذلك " فلأجل ذلك التفرق ولما حدث بسببه من تشعب الكفر شعبا " فادع " إلى الاتفاق والائتلاف على الملة الحنيفية القديمة " واستقم " عليها وعلى الدعوة إليها كما أمرك الله " ولا تتبع أهواءهم " المختلفة الباطلة بما أنزل الله من كتاب في كتاب صح أن الله أنزله يعني الإيمان بجميع الكتب المنزلة لأن المتفرقين آمنوا ببعض وكفروا ببعض كقوله تعالى : " ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض " النساء : 155 ، إلى قوله : " أولئك هم الكافرون حقا " النساء : 151 ، " لأعدل بينكم " في الحكم إذا تخاصمتم فتحاكمتم " لا حجة بيننا وبينكم " أي لا خصومة : لأن الحق قد ظهر وصرتم محجوبين به فلا حاجة إلى المحاجة . ومعناه : لا إيراد حجة بيننا لأن المتحاجين : يورد هذا حجته وهذا حجته " الله يجمع بيننا " يوم القيامة فيفصل بيننا وينتقم لنا منكم وهذه محاجزة ومتاركة بعد ظهور الحق وقيام الحجة والإلزام . فإن قلت : كيف حوجزوا وقد فعل بهم بعد ذلك ما فعل من القتل وتخريب البيوت وقطع النخيل والإجلاء ؟ قلت : المراد محاجزتهم في مواقف المقاولة لا المقاتلة .
" والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد " .
" يحاجون في الله " يخاصمون في دينه " من بعد " ما استجاب له الناس ودخلوا في الإسلام ليردوهم إلى دين الجاهلية كقوله تعالى : " ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا " البقرة : 109 ، كان اليهود والنصارى يقولون للمؤمنين : كتابنا قبل كتابكم ونبينا قبل نبيكم ونحن خير منكم وأولى بالحق . وقيل : من بعد ما استجاب الله لرسوله ونصره يوم بدر وأظهر دين الإسلام " داحضة " باطلة زالة