فإن قلت : ما وجه قوله : " خلقت بيدي " : قلت : قد سبق لنا أن ذا اليدين يباشر أكثر أعماله بيديه فغلب العمل باليدين على سائر الأعمال التي تباشر بغيرهما حتى قيل في عمل القلب : هو مما عملت يداك وحتى قيل لمن لا يدي له : يداك أوكتا وفوك نفخ وحتى لم يبق فرق بين قولك : هذا مما عملته وهذا مماعملته يداك . ومنه قوله : " ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي " ص : 75 ؟ قلت : الوجه الذي استنكر له إبليس السجود لادم واستنكف منه أنه سجود لمخلوق فذهب بنفسه وتكبر أن يكون سجوده لغير الخالق وانضم إلى ذلك أن آدم مخلوق من طين وهو مخلوق من نار . ورأى للنار فضلا على الطين فاستعظم أن يسجد لمخلوق مع فضله عليه في المنصب وزل عنه أن الله سبحانه حين أمر به أعز عباده عليه وأقربهم منه زلفى وهم الملائكة وهم أحق بأن يذهبوا بأنفسهم عن التواضع للبشر الضئيل ويستنكفوا من السجود له من غيرهم ثم لم يفعلوا وتبعوا أمر الله وجعلوه قدام أعينهم ولم يلتفتوا إلى التفاوت بين الساجد والمسجود له تعظيما لأمر ربهم وإجلالا لخطابه : كان هو مع انحطاطه عن مراتبهم حرى بأن يقتدي بهم ويقتفي أثرهم ويعلم أنهم في السجود لمن هو دونهم بأمر الله أوغل في عبادته منهم في السجود له لما فيه من طرح الكبرياء وخفض الجناح فقيل له : ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أي : ما منعك من السجود لشيء هو كما تقول مخلوق خلقته بيدي - لا شك في كونه مخلوقا - امتثال لأمري وإعظاما لخطابي كما فعلت الملائكة فذكر له ما تركه من السجود مع ذكر العلة التي تشبث بها في تركه وقيل له : لم تركته مع وجود هذه العلة وقد أمرك الله به يعني : كان عليك أن تعتبر أمر الله ولا تعتبر هذه العلة ومثاله : أن يأمر الملك وزيره أن يزور بعض سقاط الحشم أمر الله ولا تعتبر هذه العلة ومثاله : أن يأمر الملك وزيره أن يزور بعض سقاط الحشم فيمتنع اعتبارا لسقوطه فيقول له : ما منعك أن تتواضع لمن لا يخفى علي سقوطه . يريد : هلا اعتبرت أمرى وخطابي وتركت اعتبار سقوطه وفيه : أني خلقته بيدي فأنا أعلم بحاله ومع ذلك أمرت الملائكة بأن يسجدوا له لداعي حكمة دعاني إليه : من إنعام عليه بالتكرمة السنية وابتلاء للملائكة فمن أنت حتى يصرفك عن السجود له مال يصرفني عن الأمر بالسجود له . وقيل : معنى " لما خلقت بيدي " لما خلقت بغير واسطة وقرىء : بيدي كما قرىء : " بمصرخي " . وقرىء : بيدي على التوحيد " من العالمين " ممن علوت وفقت فأجاب بأنه من العالين حيث " أنا خير منه " وقيل : استكبرت الان أم لم تزل منذ كنت من المستكبرين . ومعنى الهمزة : التقرير . وقرىء : " استكبرت " بحذف حرف الاستفهام لأن أم تدل عليه . أو بمعنى الإخبار . هذا على سبيل الأولى أي : لو كان مخلوقا من نار لما سجدت له لأنه مخلوق مثلي فكيف أسجد لمن هو دوني لأنه من طين والنار تغلب الطين وتأكله وقد جرت الجملة الثانية من الأولى وهي " خلقتني من نار " مجرى المعطوف عطف البيان من المعطوف عليه في البيان والإيضاح .
" قال فاخرج منها فإنك رجيم وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين " " منها " من الجنة . وقيل : من السماء . وقيل : من الخلقة التي أنت فيها لأنه كان يفتخر بخلقته فغير الله خلقته فاسود بعد ما كان أبيض وقبح بعد ما كان حسنا وأظلم بعد ما كان نورانيا . والرجيم : المرجوم . ومعناه : المطرود كما قيل له : المدحور والملعون لأن من طرد رمي بالحجارة على أثره . والرجم : الرمي بالحجارة . أو لأن الشياطين يرجمون بالشهب . فإن قلت : قوله : " لعنتي إلى يوم الدين " كأن لعنة إبليس غايتها يوم الدين ثم تنقطع . قلت : كيف تنقطع وقد قال الله تعالى : " فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين " الأعراف : 44 ، ولكن المعنى : أن عليه اللعنة في الدنيا فإذا كان يوم الدين اقترن له باللعنة ما ينسى عنده اللعنة فكأنها انقطعت .
" قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم " فإن قلت : ما الوقت المعلوم الذي أضيف إليه اليوم ؟ قلت : الوقت الذي تقع فيه النفخة الأولى . ويومه : اليوم الذي وقت النفخة جزء من أجزائه . ومعنى المعلوم : أنه معلوم عند الله معين لا يستقدم ولا يستأخر . " فبعزتك " إقسام بعزة الله تعالى وهي سلطانه وقهره