: يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور إن الشياطين لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعوا حزنه ليكونوا من أصحاب السعير الذين كفروا لهم عذاب شديد والذين ءامنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر كبير " وعد الله الجزاء بالثواب والعقاب " فلا تغرنكم " فلا تخدعنكم " الدنيا " ولا يذهلنكم التمتع بها والتلذذ بمنافعها عن العمل للآخر وكطلب ما عند الله " ولا يغرنكم بالله الغرور " لا يقولن لكم اعلموا ما شئتم فإن الله غفور بغفر كل كبيرة وبعفو عن كب خطيئة . والغرور الشيطان لأن ذلك ديدنه . وقرئ بالضم وهو مصدر غره كاللزوم والنهوك أو جمع غار كقاعد وقعود أخبرنا الله D أن الشيطان لنا عدو مبين واقتض علينا قصته وما فعل بأبينا آدم عليه السلام وكيف انتدب لعداوة جنسنا من قبل وجوده وبعده ونحن على ذلك نتولاه ونطيعه فيما يريد منا مما فيه هلاكنا فوعظنا D بأنه كما علمتم عدوكم الذي لا عدو أعرق في العداوة منه وأنتم تعاملونه معاملة من لا علم له بحاله " فاتخذوه عدوا " في عقائدكم وأفعالكم . ولا يوجدون منكم إلا ما يدل على معاداته ومناصبته في سركم وجهركم . ثم لخص سر أمره وخطأ من اتبعه بأن غرضه الذي يؤمه في دعوة شيعته ومتبعي خطواته : هو أن يوردهم مورد الشقوة والهلاك وأن يكونوا من أصحاب السعير . ثم كشف الغطاء وقشر اللحاء ليقطع الأطماع الفارغة والأماني الكاذبة فبنى الأمر كله على الإيمان والعمل وتركهما .
" أفمن زين له سوء علمه فرءاه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون " لما ذكر الفريقين الذين كفروا والذين آمنوا قال لنبيه A " أفمن زين له سوء عمله فراءة حسنا " يعني : أفمن زين له شوء علمه من هذين الفريقين كمن لم يزين له فكأن رسول الله A قال : لا فقال : " فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ومعنى تزيين العمل والإضلال واحد وهو أن يكون العاصي على صفة لا تجدي عليه المصالح حتى يستوجب بذلك خذلان الله تعالى وتخيله وشأنه فعند ذلك يهيم في الضلال ويطلق آمر النهي ويعتنق طاعة الهوى حتى يرى القبيح حسنا والحسن في قبيحا كأنما غلب على عقله وسلب تمييزه ويقعد تحت قول أبي نواس : .
اسقني حتى تراني ... حسنا عندي القبيح .
وإذا خذل الله المصممين على الكفر وخلاهم وشأنهم فإن على الرسول أن لا يهتم بأمرهم ولا يلقي بالا إلى ذكرهم ولا يحزن لا يتحسر عليهم : اقتداء بسنة الله نفسك عليهم تحسرة فحذف الجواب لدلالة فلا تذهب نفسك عليه : أو أفمن زين له سوء عمله كمن هداه الله فحذف لدلالة " فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء " عليه حسرات : مفعول له يعني : فلا تهلك نفسك للحسرات . وعليهم صلة تذهب كما تقول : هلك عليه حبا ومات عليه حزنا . أو هو بيان للمتحسر عليه . ولا يجوز أن يتعلق بحسرات لأن المصدر لا تتقدم عليه صلته ويجوز أن يكون حالا كأن كلها صارت حسرات لفرط التحسر كما قال جرير : .
مشق الهواجر لجمهن مع السرى ... حتى ذهبن كلاكلا وصدورا .
يريد : رجعن كلاكلا وصدورا أي : لم يبق إلا كلاكلها وصدورها . ومنه قوله : .
فعلى إثرهم تساقط نفسي ... حسرات وذكرهم لي سقام .
وقرئ : فلا تذهب نفسك " إن الله عليم بما يصنعون " وعيد لهم بالعقاب على سوء صنيعهم .
" والله الذي أرسل الريح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور " قرئ : أرسل الريح . فإن قلتك لم جاء " فتثير على المضارعة دون ما قبله وما بعده ؟ قلت ؛ ليحكى الحال التي تقعي فيها إثارة الرياح السحاب وتستحضر تلك الصور البديعة الدالة على القدرة الربانية وهكذا يفعلون بفعل فيه نوع تمسييز وخصوصية بحال تستغرب أو تهم المخاطب أو غير ذلك كما قال تأبط شرا : .
بأني قد لقيت الغول تهوي ... بسهب كالصحيفة صحصحان .
فأضربها بلا دهش فخرت ... صريعا لليدين وللجران