استعر الفتح للإطلاق والإرسال . ألا ترى إلى قوله : " فلا مرسل له من بعده " مكان : لا فاتح له يعني : أي شيء يطلق الله من رحمة أي من نعمة رزق أو مطر أو صحة أو أمن أو غير ذلك من صنوف نعمائه التي لا يحاط بعددها وتنكيره الرحمة للإشاعة والإبهام كأنه قال : من أية رحمة كانت سماوية أو أرضية فلا أحد يقدر على إمساكه وحبسها وأي شيء يمسك الله فلا أحد يقدر على إطلاقه . فإن قلت : لم أنت الضمير أولا ثم ذكر آخر ؟ وهو راجع في لحالين إلى الاسم المتضمن معنى الشرط ؟ قلت : هما لغتان : الحمل على المعنى وعلى اللفظ والمتكلم على الخيرة فيهما فأنت على معنى الرحمة وذكر على أن لفظ المرجوع إليه لا تأنيث فيه ولأن الأول فسر بالرحمة فحسن أتباع الضمير التفسير ولم يفسر الثاني فترك على أصل التذكير وقرئ : فلا مرسل لها . فإن قلت : لا بد للثاني من تفسير فما تفسيره ؟ قلت : يحتمل أن يكون تفسيره مثل تفسير الأول . ولكنه ترك لدلالته عليه وأن يكون مطلقا في كل ما يمسكه من غضبه ورحمته وإنما فسر الرحمة بالتوبة وعزاه إلى ابن عباس Bهما ؟ قلت : إن أراد بالتوبة الهداية لها والتوفيق فيها - وهو الذي أراده ابن عباس Bهما إن قاله - فمقبول ؛ وإن إراد أنه إن شاء أن يتوب العاصي تاب وإن لم يشأ لم يتب ؛ فمردوده ؛ لأن الله تعالى يشاء التوبة أبدا ولا يجوز عليه أن لا يشاءها " من بعده " من بعد إمساكه كقوله تعالى : " فمن يهديه من بعد الله " الجاثية : 23 ، " فبأي حديث الإرسال والإمساك " الحكيم " الذي يرسل ويمسك ما تقتضي الحكمة إرساله وإمساكه .
" يا أيها الناس اذكروا نعمت الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إلاه إلا هو فأنى تؤفكون " ليس المراد بذكر باللسان فقط ولكن به وبالقلب وحفظهما من الكفران والغمط وشكرها بمعرفة حقها والاعتراف بها وطاعة موليها . ومنه قول الرجل لمن أنعم عليه : اذكر أيادي عندك . يريد حفظهما وشكرها والعمل على موجبها والخطاب عام للجميع لأن جميعهم مغمورون في نعمة الله . وعن ابن عباس رضي عنهما : يريد : يا أهل مكة اذكروا نعمة الله عليكن حيث اسكنكم حرنة ومنعكم من جميع العالم والناس يتخطفون من حولكم . وعنه : نعمة الله العافية . وقرئ : غير الله بالحركات الثلاث ؛ فالجر والرفع على الوصف لفظا ومحلا والنصب على الاستثناء . فإن قلت : ما محل " يرزقكم " ؟ قلت : يحتمل أن يكون له محل إذا أوقعته صفة لخالق وأن لا يكون له محل إذا رفعت محل من خالق بإضمار يرزقكم وأوقعت يرزقكم تفسيرا له أو جعلته كلاما مبتدأ بعد قوله : " هل من خالق غير الله " . فإن قلت : هل فيه دليل على أن الخالق لا يطلق على غير الله تعالى ؟ قلت : نعم إن جعلت " يرزقكم " كلاما مبتدأ وهو الوجه الثالث من لأوجه الثلاثة . وإما على الوجهين الآخرين : وهما الوصف والتفسير . فقد يقيد فيهما بالرزق من السماء والأرض وخرج من الإطلاق فكيف سستشهد به على اختصاصه بالإطلاق ؛ والرزق من السماء المطر ومن الأرض النبات " لا إله إلا هو " جملة مفصولة لا محل لها من الآعراب مثل : يرزقكم في الوجه الثالث ولو وصلتها كما وصلت يرزقكم لم يساعد عليه المعنى ؛ لأن قولك : هل من خالق آخر سوى الله لا إله إلا ذلك الخالق : غير مستقم : لأن قولك : هل من خالق آخر سوى الله لا إله إلا ذلك الخالق : غير مستقيم : لأن قولك : هل من خالق سوى الله إثبات لله . فلو ذهبت تقول ذلك : كنت مناقضا بالنفي بعد الإثبات " فأنى تؤفكون " فمن أي وجه تصرفون عن التوحيد إلى الشرك ؟ .
" وإن يكذبون فقد كذبت رسل من قبلك وإلى الله ترجع الأمور " نعي به على قريش سوء تلقيهم لآيات الله وتكذيبهم بها وسلى رسوله A بأن له في الأنبياء قبله أسوة حسنة ثم جاء بما يشتمل على الوعد والوعيد : من رجوع الأمور إلى حكمه ومجازاة المكذب والمكذب بما يستحقانه . وقرئ : ترجع بضم التاء وفتحها . فإن قلت : ما وجه صحة جزاء الشرط ؟ ومن حق الجزاء أن يتعقب الشرط وهذا سابق به . قلت : معناه : وإن يكذبون فتأسن استغناء بالسبب عن المسبب : أعني بالتكذيب عن التأسي . فإن قلت : ما معنى التنكير في رسل ؟ قلت : معناه فقد كذبت رسل أي رسل ذوو عدد كثير . وأولا آيات ونذر . وأهل أعمار طوال وأصحاب صبر وعزم وما أشبه ذلك وهذا أسلى له وأحث على المصابرة