يقول تعالى مخبرا عن المؤمنين أنهم تمنوا شرعية الجهاد فلما فرضه الله D وأمر به نكل عنه كثير من الناس كقوله تبارك وتعالى : { ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا } وقال D ههنا : { ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة } أي مشتملة على حكم القتال ولهذا قال : { فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت } أي من فزعهم ورعبهم وجبنهم من لقاء الأعداء ثم قال مشجعا لهم { فأولى لهم * طاعة وقول معروف } أي وكان الأولى بهم أن يسمعوا ويطيعوا أي في الحالة الراهنة { فإذا عزم الأمر } أي جد الحال وحضر القتال { فلو صدقوا الله } أي خلصوا له النية { لكان خيرا لهم } .
وقوله سبحانه وتعالى : { فهل عسيتم إن توليتم } أي عن الجهاد ونكلتم عنه { أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم } أي تعودوا إلى ما كنتم فيه من الجاهلية الجهلاء تسفكون الدماء وتقطعون الأرحام ولهذا قال تعالى : { أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم } وهذا نهي عن الإفساد في الأرض عموما وعن قطع الأرحام خصوصا بل وقد أمر الله تعالى بالإصلاح في الأرض وصلة الأرحام وهو الإحسان إلى الأقارب في المقال والأفعال وبذل الأموال وقد وردت الأحاديث الصحاح والحسان بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم من طرق عديدة ووجوه كثيرة قال البخاري : حدثنا خالد بن مخلد حدثنا سليمان حدثني معاوية بن أبي مزرد عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة Bه عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : [ خلق الله تعالى الخلق فلما فرغ منه قامت الرحم فأخذت بحقوي الرحمن D فقال مه فقالت هذا مقام العائذ بك من القطيعة فقال تعالى : ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك ؟ قالت : بلى قال : فذاك لك ] قال أبو هريرة Bه : اقرءوا إن شئتم { فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم } ثم رواه البخاري من طريقين آخرين عن معاوية بن أبي مزرد به قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : [ اقرءوا إن شئتم { فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم } ] ورواه مسلم من حديث معاوية بن أبي مزرد به .
وقال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل بن علية حدثنا عيينة بن عبد الرحمن بن جوشن عن أبيه عن أبي بكر Bه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : [ ما من ذنب أحرى أن يعجل الله تعالى عقوبته في الدنيا مع ما يدخر لصاحبه في الاخرة من البغي وقطيعة الرحم ] ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث إسماعيل هو ابن علية به وقال الترمذي : هذا حديث صحيح وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن بكر حدثنا ميمون أبو محمد المرئي حدثنا محمد بن عباد المخزومي عن ثوبان Bه رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : [ من سره النسأ في الأجل والزيادة في الرزق فليصل رحمه ] تفرد به أحمد وله شاهد في الصحيح وقال أحمد أيضا : حدثنا يزيد بن هارون حدثنا حجاج بن أرطأة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال يا رسول الله إن لي ذوي أرحام أصل ويقطعون وأعفو ويظلمون وأحسن ويسيئون أفأكافئهم ؟ قال صلى الله عليه وسلّم : [ لا إذن تتركون جميعا ولكن جد بالفضل وصلهم فإنه لن يزال معك ظهير من الله D ما كنت على ذلك ] تفرد به أحمد من هذا الوجه وله شاهد من وجه آخر .
وقال الإمام أحمد : حدثنا يعلى حدثنا فطر عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو Bهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : [ إن الرحم معلقة بالعرش وليس الواصل بالمكافىء ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها ] رواه البخاري وقال أحمد : حدثنا بهز حدثنا حماد بن سلمة أخبرنا قتادة عن أبي ثمامة الثقفي عن عبد الله بن عمرو Bهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : [ توضع الرحم يوم القيامة لها حجنة كحجنة المغزل تكلم بلسان طلق ذلق فتقطع من قطعها وتصل من وصلها ] وقال الإمام أحمد : حدثنا سفيان حدثنا عمرو عن أبي قابوس عن عبد الله بن عمرو Bهما يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلّم قال : [ الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا أهل الأرض يرحمكم أهل السماء والرحم شجنة من الرحمن من وصلها وصلته ومن قطعها بتته ] وقد رواه أبو داود والترمذي من حديث سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار به وهذا هو الذي يروى بتسلسل الأولية وقال الترمذي : حسن صحيح .
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون حدثنا هشام الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير عن إبراهيم بن عبد الله بن قارظ أن أباه حدثه أنه دخل على عبد الرحمن بن عوف Bه وهو مريض فقال له عبد الرحمن Bه وصلت رحمك إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : [ قال الله D : أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسمها من اسمي فمن يصلها أصله ومن يقطعها أقطعه فأبته ـ أو قال ـ من بتها أبته ] تفرد به أحمد من هذا الوجه ورواه أحمد أيضا من حديث الزهري عن أبي سلمة عن الرداد ـ أو أبي الرداد ـ عن عبد الرحمن بن عوف به ورواه أبو داود والترمذي من رواية أبي سلمة عن أبيه والأحاديث في هذا كثيرة جدا .
وقال الطبراني : حدثنا علي بن عبد العزيز حدثنا محمد بن عمار الموصلي حدثنا عيسى بن يونس عن الحجاج بن الفرافصة عن أبي عمر البصري عن سليمان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : [ الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف ] وبه قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم [ إذا ظهر القول وخزن العمل وائتلفت الألسنة وتباغضت القلوب وقطع كل ذي رحم رحمه فعند ذلك لعنهم الله وأصمهم وأعمى أبصارهم ] والأحاديث في هذا كثيرة والله أعلم