( تابع ... 5 ) : - والمذاهب في كونها من القرآن ثلاثة : طرفان . ووسط فالطرف الأول قول ... .
( 62 ) " والدارقطني في " سننه " من حديث محمد بن أبي المتوكل بن أبي السري قال : صليت خلف المعتمر بن سليمان من الصلوات ما لا أحصيها : الصبح . والمغرب فكان يجهر " ببسم الله الرحمن الرحيم " قبل فاتحة الكتاب وبعدها وقال المعتمر : ما آلو أن اقتدى بصلاة أبي وقال أبي : ما آلو أن أقتدي بصلاة أنس وقال أنس : ما آلو أن اقتدي بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلّم انتهى . قال الحاكم : رواته كلهم ثقات وهو معارض بما رواه ابن خزيمة في " مختصره " . والطبراني في " معجمه " عن معتمر بن سليمان عن أبيه عن الحسن عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يسر " ببسم الله الرحمن الرحيم " في الصلاة . وأبو بكر وعمر انتهى . وفي الصلاة زادها ابن خزيمة وله طريق آخر عند الحاكم أيضا أخرجه عن محمد بن أبي السري ثنا إسماعيل بن أبي أويس ثنا مالك عن حميد عن أنس قال : صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلّم وأبي بكر . وعمر . وعثمان . وعلي فكلهم كانوا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم " قال الحاكم : وإنما ذكر به شاهدا قال الذهبي في " مختصره " : أما استحى الحاكم يورد في كتابه مثل هذا الحديث الموضوع فأنا أشهد بالله والله إنه لكذب وقال ابن عبد الهادي : سقط منه " لا " ومحمد بن أبي السري قال ابن أبي حاتم : سئل أبي عنه فقال : لين الحديث مع أنه قد اختلف عليه فيه فقيل عنه كما تقدم وقيل عنه : عن المعتمر عن أبيه عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يسر " ببسم الله الرحمن الرحيم " وأبو بكر . وعمر هكذا أخرجه الطبراني وقيل عنه : بهذا الإسناد وفيه الجهر كما رواه الحاكم وقال : رجاله ثقات وتوثيق الحاكم لا يعارض ما يثبت في " الصحيح " خلافه لما عرف من تساهله حتى قيل : إن تصحيحه دون تصحيح الترمذي . والدارقطني بل تصحيحه كتحسين الترمذي وأحيانا يكون دونه وأما ابن خزيمة . وابن حبان فتصحيحهما أرجح من تصحيح الحاكم بلا نزاع فكيف تصحيح البخاري . ومسلم كيف وأصحاب أنس الثقات الأثبات يروون عنه خلاف ذلك حتى أن شعبة سأل قتادة عن هذا فقال : أنت سمعت أنسا يذكر ذلك ؟ فقال : نعم وأخبره باللفظ الصريح المنافي للجهر ونقل شعبة عن قتادة : ما سمعه من أنس في غاية الصحة وأرفع درجات الصحيح عند أهله فإن قتادة أحفظ أهل زمانه وإتقان شعبة وضبطه هو الغاية عندهم وهذا مما يرد به قول من يزعم أن بعض الرواة روى حديث أنس بالمعنى الذي فهمه من قوله : كانوا يستفتحون الصلاة " بالحمد لله رب العالمين " ففهم من هذا نفي قراءتها فرواه من عنده فإن هذا قول من هو أبعد الناس علما برواية هذا الحديث وألفاظهم الصريحة التي لا تقبل التأويل . وبأنهم من العدالة والضبط من الغاية التي لا تحتمل المجازفة أو أنه مكابر صاحب هوى فيتبع هواه ويدع موجب الدليل والله أعلم .
وله طريق آخر عند الخطيب عن ابن أبي داود عن ابن أخي ابن وهب عن عمه العمري . ومالك وابن عيينة عن حميد عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يجهر " ببسم الله الرحمن الرحيم " في الفريضة انتهى . قال ابن عبد الهادي : سقط منه " لا " كما رواه الباغندي .
( 63 ) . وغيره عن أبن أخي ابن وهب هذا هو الصحيح وأما الجهر فلم يحدث به ابن وهب قط ويوضحه أن مالكا رواه في " الموطأ " عن حميد عن أنس قال : قمت وراء أبي بكر الصديق . وعمر . وعثمان فكلهم لا يقرأ " بسم الله الرحمن الرحيم " إذا افتتحوا الصلاة قال ابن عبد البر في " التقصي " : هكذا رواه عن جماعة موقوفا ورواه ابن أخي ابن وهب عن مالك . وابن عيينة . والعمري عن حميد عن أنس مرفوعا فقال : إن النبي صلى الله عليه وسلّم . وأبا بكر . وعمر . وعثمان لم يكونوا يقرؤون قال : وهذا خطأ من ابن أخي ابن وهب في رفعه ذلك عن عمه عن مالك فصار هذا الذي رواه الخطيب خطأ على خطأ والصواب فيه عدم الرفع . وعدم الجهر والله أعلم وذكر الخطيب وغيره لحديث أنس طرقا أخرى : فيها الجهر إلا أنه ليس فيها قوله : في الصلاة فلا حجة فيها وهو الصحيح عن أنس كما رواه البخاري .
( 64 ) عن أنس أنه سئل عن قراءة النبي صلى الله عليه وسلّم فقال : كانت مدا ثم قرأ " بسم الله الرحمن الرحيم " بمد " بسم الله " وبمد " الرحمن " ويمد " الرحيم " وروى مسلم عنه .
( 65 ) أيضا قال : نزلت علي آنفا سورة فقرأ : { بسم الله الرحمن الرحيم إنا أعطيناك الكوثر } إلى آخرها وهذا هو الصحيح عن أنس أنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلّم قراءة البسملة وليس فيه ذكر الصلاة أصلا ونظيره حديث أم سلمة .
( 66 ) أنه عليه السلام كان يقرأ : { بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين } يقطعهما حرفا حرفا وقد تقدم ويؤيد هذا المعنى حديث سعيد بن جبير قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يجهر " ببسم الله الرحمن الرحيم " بمكة وكان أهل مكة يدعون مسيلمة - الرحمن - فقالوا : إن محمدا يدعو إله اليمامة فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم بإخفائها فما جهر بها حتى مات رواه أبو داود في " مراسيله " والمرسل إذا وجد له ما يوافقه فهو حجة باتفاق .
- حديث آخر موقوف ولكنه في حكم المرفوع أخرجه الحاكم في " المستدرك ( 67 ) " عن عبد الله بن عثمان بن خثيم أن أبا بكر بن حفص بن عمر أخبره أن أنس بن مالك قال : صلى معاوية بالمدينة صلاة فجهر فيها بالقراءة فبدأ " ببسم الله الرحمن الرحيم " لأم القرآن ولم يقرأ بها للسورة التي بعدها حتى قضى تلك الصلاة ولم يكبر حين يهوي حتى قضى تلك الصلاة فلما سلم ناداه من سمع ذاك من المهاجرين . والأنصار ومن كان على مكانه : يا معاوية أسرقت الصلاة أم نسيت ؟ أين " بسم الله الرحمن الرحيم " وأين التكبير إذا خفضت وإذا رفعت ؟ فلما صلى بعد ذلك قرأ : " بسم الله الرحمن الرحيم " للسورة التي بعد أم القرآن وكبر حين يهوي ساجدا انتهى . قال الحاكم : صحيح على شرط مسلم . ورواه الدارقطني وقال : رواته كلهم ثقات وقد اعتمد الشافعي C على حديث معاوية هذا في إثبات الجهر وقال الخطيب : هو أجود ما يعتمد عليه في هذا الباب والجواب عنه من وجوه : أحدها : أن مداره على عبد الله بن عثمان بن خيثم وهو وإن كان من رجال مسلم لكنه متكلم فيه أسند بن عدي إلى ابن معين أنه قال : أحاديثه غير قوية وقال النسائي : لين الحديث ليس بالقوي فيه وقال الدارقطني : ضعيف لينوه وقال ابن المديني : منكر الحديث .
وبالجملة فهو مختلف فيه فلا يقبل ما تفرد به مع أنه قد اضطرب في إسناده ومتنه وهو أيضا من أسباب الضعف أما في " إسناده " فغن ابن خيثم تارة يرويه عن أبي بكر بن حفص عن أنس وتارة يرويه عن إسماعيل ين عبيد بن رفاعة عن أبيه ( 68 ) وقد رجح الأولى البيهقي في " كتاب المعرفة " لجلالة راويها وهو ابن جريج ومال الشافعي إلى ترجيح الثانية ورواه ابن خيثم أيضا عن إسماعيل بن عبيد بن رفاعة عن أبيه عن جده فزاد ذكر الجد كذلك رواه عنه إسماعيل بن عياش وهي عند الدارقطني والأولى عنده وعند الحاكم والثانية عند الشافعي وأما الاضطراب في متنه " فتارة يقول : صلى فبدأ " ببسم الله الرحمن الرحيم " لأم القرآن ولم يقرأ بها للسورة التي بعدها كما تقدم عند الحاكم وتارة يقول : فلم يقرأ " بسم الله الرحمن الرحيم " حين افتتح القرآن وقرأ بأم الكتاب كما هو عند الدارقطني في رواية إسماعيل بن عياش وتارة يقول : فلم يقرأ " بسم الله الرحمن الرحيم " لأم القرآن ولا للسورة التي بعدها كما هو عند الدارقطني في رواية ابن جريج ومثل هذا الاضطراب في السند والمتن مما يوجب ضعف الحديث لأنه مشعر بعدم ضبطه . الوجه الثاني : أن شرط الحديث الثابت أن لا يكون شاذا . ولا معللا وهذا شاذ معلل فإنه مخالف لما رواه الثقات الأثبات عن أنس وكيف يروي أن سمع حديث معاوية هذا محتجا به وهو مخالف لما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلّم . وعن خلفائه الراشدين ولم يعرف عن أحد من أصحاب أنس المعروفين بصحبته أنه نقل عنه مثل ذلك ومما يرد حديث معاوية هذا أن أنسا كان مقيما بالبصرة ومعاوية لما قدم المدينة لم يذكر أحد علمناه أن أنسا كان معه بل الظاهر أنه لم يكن معه والله أعلم . الوجه الثالث : أن مذهب أهل المدينة قديما وحديثا ترك الجهر بها ومنهم من لا يرى قراءتها أصلا قال عروة بن الزبير أحد الفقهاء السبعة : أدركت الأئمة وما يستفتحون القراءة إلا " بالحمد لله رب العالمين " وقال عبد الرحمن بن القاسم : ما سمعت القاسم يقرأ بها وقال عبد الرحمن الأعرج : أدركت الأئمة وما يستفتحون القراءة إلا " بالحمد لله رب العالمين " ولا يحفظ عن أحد من أهل المدينة بإسناد صحيح أنه كان يجهر بها إلا شيء يسير وله محمل وهذا عملهم يتوارثه آخرهم عن أولهم فكيف ينكرون على معاوية ما هو شبههم ؟ هذا باطل . الوجه الرابع : أن معاوية لو رجع إلى الجهر بالبسملة كما نقلوه لكان هذا معروفا من أمره عند أهل الشام الذين صحبوه ولم ينقل ذلك عنهم بل الشاميون كلهم خلفاءهم وعلماءهم كان مذهبهم ترك الجهر بها وما روي عن عمر بن عبد العزيز من الجهر بها فباطل لا أصل له . والأوزاعي إمام الشام ومذهبه في ذلك مذهب مالك لا يقرأها سرا ولا جهرا ومن المستبعد أن يكون هذا حال معاوية ومعلوم أن معاوية قد صلى مع النبي صلى الله عليه وسلّم فلو سمع النبي صلى الله عليه وسلّم يجهر بالبسملة لما تركها حتى ينكر عليه رعيته أنه لا يحسن يصلي وهذه الوجوه من تدبرها علم أن حديث معاوية هذا باطل أو مغير عن وجهه وقد يتمحل فيه ويقال : إن كان هذا الإنكار على معاوية محفوظا فإنما هو إنكار لترك إتمام التكبير لا لترك الجهر بالبسملة ومعلوم أن ترك إتمام التكبير كان مذهب الخلفاء من بني أمية وأمرائهم على البلاد حتى أنه كان مذهب عمر بن عبد العزيز وهو عدم التكبير حين يهوي ساجدا بعد الركوع وحين يسجد بعد القعود وإلا فلا وجه لإنكارهم عليه ترك الجهر بالبسملة وهو مذهب الخلفاء الراشدين . وغيرهم من أكابر الصحابة ومذهب أهل المدينة أيضا .
وبالجملة فهذه الأحاديث كلها ليس فيها صريح صحيح بل فيها عدمهما أو عدم أحدهما وكيف تكون صحيحة وليست مخرجة في شيء من الصحيح ولا المسانيد ولا السنن المشهورة ؟ وفي روايتها الكذابون . والضعفاء . والمجاهيل الذين لا يوجدون في التواريخ ولا في كتب الجرح والتعديل كعمرو بن شمر . وجابر الجعفي . وحصين بن مخارق . وعمرو بن حفص المكي . وعبد الله بن عمرو بن حسان . وأبي الصلت الهروي . وعبد الكريم بن أبي المخارق . وابن أبي علي الأصبهاني الملقب " بجراب الكذب " . وعمرو بن هارون البلخي . وعيسى بن ميمون المدني . وآخرون أضربنا عن ذكرهم وكيف يجوز أن تعارض برواية هؤلاء ما رواه البخاري . ومسلم في " صحيحيهما " من حديث أنس الذي رواه عنه غير واحد من الأئمة الأثبات : ومنهم قتادة الذي كان أحفظ أهل زمانه ويرويه عنه شعبة الملقب بأمير المؤمنين في الحديث وتلقاه الأئمة بالقبول ولم يضعفه أحد بحجة إلا من ركب هواه وحمله فرط التعصب على أن علله ورد باختلاف ألفاظه مع أنها ليست مختلفة بل يصدق بعضها بعضا كما بينا وعارضه بمثل حديث ابن عمر الموضوع أو بمثل حديث معاوية الضعيف ومتى وصل الأمر إلى مثل هذا فجعل الصحيح ضعيفا والضعيف صحيحا والمعلل سالما من التعليل والسالم من التعليل معللا سقط الكلام وهذا ليس بعدل والله يأمر بالعدل وما تحلى طالب العلم بأحسن من الإنصاف وترك التعصب ويكفينا في تضعيف أحاديث الجهر إعراض أصحاب الجوامع الصحيحة والسنن المعروفة والمسانيد المشهورة المعتمد عليها في حجج العلم ومسائل الدين فالبخاري C مع شدة تعصبه وفرط تحمله على مذهب أبي حنيفة لم يودع صحيحه منها حديثا واحدا ولا كذلك مسلم C فإنهما لم يذكرا في هذا الباب إلا حديث أنس الدال على الإخفاء ولا يقال في دفع ذلك : إنهما لم يلتزما أن يودعا في " صحيحيهما " كل حديث صحيح يعني فيكونان قد تركا أحاديث الجهر في جملة ما تركاه من الأحاديث الصحيحة وهذا لا يقوله إلا سخيف أو مكابر فإن مسألة الجهر بالبسملة من أعلام المسائل ومعضلات الفقه ومن أكثرها دورانا في المناظرة وجولانا في " المصنفات " والبخاري كثير التتبع لما يرد على أبي حنيفة من السنة فيذكر الحديث ثم يعرض بذكره فيقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : كذا وكذا وقال بعض الناس : كذا وكذا يشير ببعض الناس إليه ويشنع لمخالفة الحديث عليه وكيف يخلي كتابه من أحاديث الجهر بالبسملة وهو يقول في أول كتابه : " باب الصلاة من الإيمان " ثم يسوق أحاديث الباب ويقصد الرد على أبي حنيفة ؟ قوله : إن الأعمال ليست من الإيمان مع غموض ذلك على كثير من الفقهاء ومسألة الجهر يعرفها عوام الناس ورعاعهم هذا مما لا يمكن بل يستحيل وأنا أحلف بالله وبالله لو اطلع البخاري على حديث منها موافق بشرطه أو قريبا من شرطه لم يخل منه كتابه ولا كذلك مسلم C ولئن سلمنا فهذا أبو داود . والترمذي . وابن ماجه . مع اشتمال كتبهم على الأحاديث السقيمة والأسانيد الضعيفة لم يخرجوا منها شيئا فلولا أنها عندهم واهية بالكلية لما تركوها وقد تفرد النسائي منها بحديث أبي هريرة وهو أقوى ما فيها عندهم وقد بينا ضعفه والجواب عنه من وجوه متعددة وأخرج الحاكم منها : حديث علي .
ومعاوية وقد عرف تساهله وباقيها عند الدارقطني في " سننه " التي مجمع الأحاديث المعلولة ومنبع الأحاديث الغريبة وقد بيناها حديثا حديثا والله أعلم .
( يتبع ... )