إفراز أحد الفريقين من الآخر هو إتصافهما بوصفهما لا خصوصية ذاتهما وتعدد آحادهما وتعليق الميز بالخبيث مع أن المتبادر مما سبق من عدم ترك المؤمنين على الإختلاط تعليقه بهم وإفرازهم عن المنافقين لما أن الميز الواقع بين الفريقين إنما هو بالتصرف في المنافقين وتغييرهم من حال إلى حال أخرى مع بقاء المؤمنين على ما كانوا عليه من أصل الإيمان وإن ظهر مزيد إخلاصهم لا بالتصرف فيهم وتغييرهم من حال إلى حال مع بقاء المنافقين على ما هم عليه من الإستتار وإنما لم ينسب عدم الترك إليهم لما أنه مشعر بالإعتناء بشأن من نسب إليه فإن المتبادر منه عدم الترك على حالة غير ملائمة كما يشهد به الذوق السليم قاله بعض المحققين وقيل : إنما قدم الخبيث على الطيب وعلق به فعل الميز إشعارا بمزيد رداءة ذلك الجنس فإن الملقى من الشيئين هو الأدون .
وقرأ حمزة والكسائي يميز بالتشديد وماضيه ميز وماضي المخفف ماز وهماكما قال غير واحدلغتان بمعنى واحد وليس التضعيف لتعدي الفعل كما في فرح وفرح لأن ماز وميز يتعديان إلى مفعول واحد ونظير ذلك عاض وعوض وعن إبن كثير أنه قريء يميز بضم أوله مع التخفيف على أنه من أماز بمعنى ميز وأختلف بم يحصل هذا الميز فقيل : بالمحن والمصائب كما وقع يوم أحد وقيل : بإعلاء كلمة الدين وكسر شوكة المخالفين وقيل : بالوحي إلى النبي ولهذا أردفه سبحانه بقوله : وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء ومن هنا جعل مولانا شيخ الإسلام ما قبل الإستدراك تمهيدا لبيان الميز الموعود به على طريق تجريد الخطاب للمخلصين تشريفا لهم والإستدراك إشارة إلى كيفية وقوعه على سبيل الإجمال وأن المعنى ما كان الله ليترك المخلصين على الإختلاط بالمنافقين بل يرتب المبادي حتى يخرج المنافقين من بينهم وما يفعل ذلك بإطلاعكم على ما في قلوبهم من الكفر والنفاق ولكنه تعالى يوحي إلى رسوله فيخبره بذلك وبما ظهر منهم من الأقوال والأفعال حسبما حكى عنهم بعضه فيما سلف فيفضحهم على رؤس الأشهاد ويخلصكم مما تكرهون وذكر أنه قد جوز أن يكون المعنى لا يترككم مختلطين حتى يميز الخبيث من الطيب بأن يكلفكم التكاليف الصعبة التي لا يصبر عليها إلا الخلص الذين أمتحن الله تعالى قلوبهم بدل الأرواح في الجهاد وإنفاق الأموال في سبيل الله تعالى فيجعل ذلك عيارا على عقائدكم وشاهدا بضمائركم حتى يعلم بعضكم بما في قلب بعض بطريق الإستدلال لا من جهة الوقوف على ذات الصدور فإن ذلك مما أستأثر الله تعالى به وتعقبه بأن الإستدراك بإجتباء الرسل المنبيء عن مزيد مزيتهم وفضل معرفتهم على الخلق إثر بيان قصور رتبتهم عن الوقوف على خفايا السرائر صريح في أن المراد إظهار تلك السرائر أثر بطريق الوحي لا بطريق التكليف بما يؤدي إلى خروج أسرارهم عن رتبة الخفاء .
وأنت تعلم أن دعوى أن الإستدراك صريح فيما أدعاه من المراد مما لا يكاد يثبته الدليل ولهذا قيل : إن حاصل المعنى ليس لكم رتبة الإطلاع على الغيب وإنما لكم رتبة العلم الإستدلالي الحاصل من نصب العلامات والأدلة والله تعالى سيمنحكم بذلك فلا تطمعوا في غيره فإن رتبة الإطلاع على الغيب لمن شاء من رسله وأين أنتم من أولئك المصطفين الأخيار نعم ما ذكره هذا المولى أظهر وأولى وقد سبقه إليه أبو حيان والمراد من قوله سبحانه : ليطلعكم إما ليؤتى أحدكم علم الغيب فيطلع على ما في القلوب أو ليطلع جميعكم أي أنه تعالى لا يطلع جميعكم على ذلك بل يختص به من أراد وأيد الأول بأن سبب النزول أكثر ملاءمة له