يؤتي الحكمة أخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس أنها المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه ومتشابهه ومحكمه ومقدمه ومؤخره وحلاله وحرامه وأمثاله وفي رواية عنه الفقه في القرآن ومثله عن قتادة والضحاك وخلق كثير وما روى ابن المنذر عن ابن عباس أنها النبوة يمكن أن يحمل على هذا لما أخرج البيهقي عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : من قرأ ثلث القرآن أعطي ثلث النبوة ومن قرأ نصف القرآن أعطي نصف النبوة ومن قرأ ثلثيه أعطي ثلثي النبوة ومن قرأ القرآن كله أعطي كل النبوة ويقال له يوم القيامة اقرأ وارق بكل آية درجة حتى ينجز ما معه من القرآن فيقال له إقبض فيقبض فيقال له هل تدري ما في يديك فإذا بيده اليمنى الخلد وفي الأخرى النعيم وليس المراد من القراءة في هذا الخبر مجردها إذ ذلك مما يشترك فيه البر والفاجر ولكن المراد قراءة بفقه ويؤيد ذلك ما أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي الدرداء الحكمة قراءة القرآن والفكرة فيه وعن مجاهد أنها الإصابة في القول والعمل وفي رواية عنه أنها القرآن والعلم والفقه وفيالأخرى العلم الذ تعظم منفعته وتجل فائدته وعن عطاء أنها المعرفة بالله تعالى وقال أبو عثمان : هي نور يفرق به بين الوسواس والإلهام وقيل : غير ذلك وفي البحر أن فيها تسعة وعشرين قولا لأهل العلم قريب بعضها من بعض وعد بعضهم الأكثر منها إصطلاحا وإقتصارا على مارآه القائل فردا مهما من الحكمة وإلا فهى في الأصل مصدر من الاحكام وهو الإتقان في علم أو عمل أو قول أو فيها كلها وعن مقاتل أنها فسرت في القرآن بأربعة أوجه فتارة بمواعظ القرآن وأخرى بما فيه من عجائب الأسرار ومرة بالعلم والفهم وأخرى بالنبوة .
قيل : ولعل الأنسب بالمقام ما ينظم الأحكام المبينة في تضاعيف الآية الكريمة من أحد الوجهين الأولين ومعنى إيتائها تبيينها والتوفيق للعمل بها أي تبيينها ويوفق للعلم والعمل بها من يشاء من عباده أن يؤتيها إياه بموجب سعة فضله وإحاطة علمه كما آتاكم ما بيينه في ضمن الآي من الحكم البالغة التي يدور عليها فلك منافعكم فإغتنموها وسارعوا إلى العمل بها ومن يؤت الحكمة بناه للمفعول إما لأن المقصود بيان فضيلة من نال الحكمة بقطع النظر عن الفاعل وإما لتعين الفاعل والإظهار في مقام الإضمار للإعتناء بشأن هذا المظهر ولهذا قدم من قبل على المفعول الأول وللإشعار بعلة الحكم وقرأ يعقوب يؤتى على البناء للفاعل وجعل من الشرطية مفعول مقدما أو مبتدأ والعائد محذوف ويؤيد الثاني قراءة الأعمش ومن يؤته الحكمة فقد أوتى خيرا عظيما كثيرا إذ قد جمع له خير الدارين .
أخرج الطبراني عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : إن لقمان قال لإبنه : يا بني عليك بمجالسة العلماء وإسمع كلام الحكماء فإن الله تعالى يحي القلب الميت بنور الحكمة كما يحي الأرض الميتة بوابل المطر وأخرج البخارى ومسلم عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : لا حسد إلا في أثنتين رجل آتاه الله تعالى مالا فسلطه على هلكته في الحق ورجل آتاه الله تعالى الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها وأخرج الطبراني عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : يبعث الله تعالى العباد يوم القيامة ثم يميز العلماء فيقول : يامعشر العلماء إني لم أضع فيكم علمي لأعذبكم إذهبوا فقد غفرت لكم وفي رواية عن ثعلبة بن الحكم أنه سبحانه يقول : إني لم أجعل علمي وحكمي فيكم إلا وأنا أريد أن