أنأن يتركوا مفتونين وأجيب بأن أصل الكلام ألا يفتنون لقولهم آمنا على إنكار أن يكون سببا لعدم الفتن ثم قيل : أيتركون غير مفتونين لقولهم آمنا مبالغة في إنكار أن يبقوا من غير فتن لذلك ثم ادخل على حسبان الترك مبالغة على مبالغة وإنما يرد ما أورد إذا لم يلاحظ أصل الكلام ويجعل مصب الانكار الحسبان من أول الأمر .
وقيل : إنما يلزم ما ذكر لو لم يقدر احسبوا تركهم غير مفتونين بمجرد قولهم : آمنا دون إخلاص وعمل صالح أما لو قدر ذلك استقام كما صرح به الزجاج على أن ذلك مبني على اعتبار المفهوم واعترض ذلك بعضهم من حيث اللفظ بأن فيه الفصل بين الحال وذيها بثاني مفعولي حسب وهو أجنبي وأجيب بأن الفصل غير ممتنع بل الأحسن أن لا يقع فصل إلا إذا اعترض ما يوجبه وههنا الاهتمام بشأن الخبر حسن التقديم لأن مصب الانكار ذلك ولا يخفى أنه يحتاج إلى مثل هذأ الجواب على ما يقتضيه الظاهر من جعل أن يتركوا في تأويل مصدر وقع مفعولا أولا وأن يقولوا في تأويل مصدر أيضا مجرور بلام مقدرة والجار والمجرور في موقع المفعول الثاني وأما على ما ذكره بعض المحققين من أنهما لم يجعلا كذلك وإنما جعل أن يقولوا معمولا ليتركوا بتقدير اللام وجعل أن يتركوا سادا مسد المفعولين واقتضى المعنى أن يقال أحسب الناس تركهم غير غير مفتونين لقولهم آمنا بجعل تركهم مفعولا أولا ولقولهم مفعولا ثانيا فلا يحتاج اليه لأنه إن جرينا مع اللفظ كان أن يتركوا سادا مسد المفعولين فلا يكون فيه مفعول ثان فاصل بين الحال وذيها وإن جرينا مع المعنى واعتبرنا الكلام مجردا عن أن المصدرية وجيء به كما سمعت كانت الحال متصلة بذيها وقيل : يجوز أن يكون المفعول الأول لحسب محذوفا أي أحسب الناس أنفسهم و أن يتركوا في موضع المفعول الثاني على أنه تأويل مصدر وهو في تأويل اسم المفعول أي متروكين وهم لا يفتنون في موضع الحال كما تقدم وأن يؤمنوا بتقدير لأن يؤمنوا متعلق بيتركوا فكأنه قيل : أحسب الناس أنفسهم متروكين غير مفتونين لقولهم آمنا وقيل : إن هذا المعنى حاصل على تقدير سد أن يتركوا مسد المفعولين فتأمل فيه وفيما قبله ولعل الأبعد عن التكلف ما ذ : رناه أولا والمراد إنكار حسبانهم أن يتركوا غير مفتونين بمجرد أن يقولوا آمنا واستبعادا له وتحقيق أنه تعالى يمتحنهم بمشاق التكاليف كالمهاجرة والمجاهدة ورفض الشهوات ووظائف الطاعات وفنون المصائب في الأنفس والاموال ليتميز المخلص من المنافق والراسخ في الدين من المتزلزل فيعامل كل بما يقتضيه ويجازيهم سبحانه بحسب مراتب أعمالهم فان مجرد الايمان وإن كان عن خلوص لا يقتضي غير الخلاص من الخلود في النار .
وذكر بعضهم أنه سبحانه لو اثاب المؤمن يوم القيامة من غير أن يفتنه في الدنيا لقال الكافر المعذب : ربي لو أنك كنت فتنته في الدنيا لكفر مثلي فايمانه الذي تثيبه عليه مما لا يستحق الثواب له فبالفتنة يلجم الكافر عن مثل هذا القول ويعوض المؤمن بدلها ما يعوض بحيث يتمنى لو كانت فتنته أعظم مما كانت والآية على ما أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الشعبي نزلت في أناس كانوا بمكة قد أقروا بالاسلام فكتب اليهم أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من المدينة لما نزلت آية الهجرة أنه لا يقبل منكم اقرار ولا اسلام حتى تهاجروا فخرجوا عامدين إلى المدينة فاتبعهم المشركون فردوهم فنزلت فيهم هذه الآية فكتبوا اليهم أنزلت فيكم آية كذا وكذأ فقالوا : نخرج فان اتبعنا أحد قاتلناه فخرجوا فاتبعهم المشركون فقاتلوهم