ثم أعلم أنه ليس المراد من الآية قصر الحرمة على ماذكر مطلقا كما هو الظاهر حتى يرد منع الحصر بحرمة أشياء لم تذكر بل مقيد بما أعتقدوه حلالا بقرينة أنهم كانوا يستحلون ماذكر فكأنه قيل : إنما حرم عليكم ماذكر من جهة ما أستحللتموه لأشياء أخر والمقصود من قصر الحرمة على ماذكروه إعتقادهم حليته بأبلغ وجه وآكده فيكون قصر قلب إلا أن الجزء الثاني ليس لرد إعتقاد الحرمة إذ لم يعتقدوا حرمة شيء مما أستحلوه بل تأكيد الجزء الأول والخطاب للناس بإعتبار دخول المشركين فيهم فيكون مفاد الآية الزجر عن تحليل المحرمات كما أن ياايها الناس كلوا زجر عن تحريم الحلالات أو المراد قصر حرمة ما ذكر على حال الإختيار كأنه قيل : إنما حرم عليكم هذه الأشياء ما لم تضطروا إليها والأنسب حينئذ أن يكون الخطاب للمؤمنين ليكون محط الفائدة هو القيد حيث كانوا معتقدين لحرمة هذه الأمور وفائدة الحكم الترخيص بعد التضييق عليهم بطلب الحلال الطيب أو تشريفهم بالإمتنان بهذا الترخيص بعد الإمتنان عليهم بإباحة المستلذات وأختار بعضهم أن المراد من الحصر رد المشركين في تحريمهم ما أحله الله تعالىمن البحيرة والوصيلة والحاموأمثالها لأكلهم من هذه المحرمات المذكورة في الآية فكأنهم قالوا : تلك حرمت علينا ولكن هذه أحلت لنا فقيل : ما حرمت إلا هذهفهو إذا إضافيوذهب آخرون إلى أنه قصر إفراد بالنسبة إلى ما حرمه المؤمنون مع المذكورات من المستلذات وفيه أن المؤمنين لم يعتقدوا حرمة المستلذات بل حرموها على أنفسهم لما سمعوا من شدائد المحاسبة والسؤال عن النعم قاله بعض المحققين فليتدبر .
إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب المشتمل على فنون الأحكام التي من جملتها أحكام المحلالات والمحرمات والآية نزلتكما روى عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهفي علماء اليهود كانوا يصيبون من سفلتهم هدايا وكانوا يرجون أن يكون النبي المبعوث منهم فلما بعث من غيرهم كتموا وغيروا صفته صلى الله تعالى عليه وسلم حتى لا يتبع فتزول رياستهم وتنقطع هداياهم ويشترون به أي يأخذون بدله في نفس الأمر والضميرللكتابأو لما أنزل أو للكتمان ثمنا قليلا أي عوضا حقيرا .
أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار إما في الحالكما هو أصل المضارعلأنهم أكلوا ما يتلبس ب النار وهوالرشال كونها عقوبة لها فيكون في الآية إستعارة تمثيلية بأن شبه الهيئة الحاصلة من أكلهم ما يتلبس بالنار بالهيئة المنتزعة منأكلهم النارمن حيث إنه يترتب علىأكلكل منهما من تقطع الأمعاء والألم ما يترتب على الآخر فأستعمل لفظ المشبه به في المشبه وإما في المآل أي لا يأكلون يوم القيامة إلا النار فالنار في الإحتمالين مستعمل في معناه الحقيقي وقيل : إنها مجاز عنالرشاإذا أريد الحال والعلاقة السببية والمسببية وحقيقة إذا أريد المآل ولا يخفى أن الأول هو الأليق بمقام الوعيد والجار والمجرور حال مقدرة أي ما يأكلون شيئا حاصلا في بطونهم إلا النار إذ الحصول فيالبطنليس مقارنا للأكل وبهذا التقدير يندفع ضعف تقديم الحال على الإستثناء ولا يحتاج إلى القول بأنه متعلق ب يأكلون والمراد في طريق بطونهم كما أختاره أبو البقاء والتقييد بالبطون لإفادة للتأكيد كما قيل بهوالظرفية بلفظة في وإن لم تقتض إستيعاب المظروف الظرف لكنه شاع إستعمال ظرفيةالبطن في الإستيعاب كما شاع ظرفية بعضه في عدمه كقوله :