في هذا المقام لعلمه بظهوره وشرع فى مقام اصعب لأن العلم بما هيته تعالى غير حاصلة للبشر ولا يخفى ما في هذه الادلة من القيل والقال ومن الناس من قال : أنه كان جاهلا بالله تعالى بعد اتفاقهم على أن العاقل لا يجوز أن يعتقد فى نفسه أنه خالق السموات والأرض وما فيهما واختلفوا فى كيفية جهله فيحتمل أنه كان دهريا نافيا للصانع اصلا ولعله كان يقول بعدم احتياج الممكن فى وجوده إلى مؤثر وان وجود العالم اتفاقى كما نقل عن ديمقراطيس واتباعه ويحتمل أنه كان فلسفيا قائلا بالعلة الموجبة ويحتمل أنه كان من عبدة الكواكب ويحتمل أنه كان من عبدة الأصنام ويحتمل أنه كان من الحلولية المجسمة وأما ادعاؤه الربوبية لنفسه فبمعنى أنه يجب على من تحت يده طاعته والانقياد له وعدم الاشتغال بطاعة غيره واستدل فى شروعه فى المناظرة وطلب الحجة دون السفاهة والشغب مع كونه جبارا شديد البطش على أن الشغب والسفاهة مع من يدعو إلى الحق فى غاية القبح فلا ينبغى لمن يدعى الاسلام والعلم أن يرتضى لنفسه ما لم يرتضه فرعون لنفسه وباشتغال موسى عليه السلام بأقامة الدليل على المطلوب على فساد التقليد فى امثال هذا المطلوب وفساد قول القائل : أن معرفة الله تعالى تستفاد من قول الرسول وبحكاية كلام فرعون وجواب موسى عليه السلام على أنه يجوز حكاية كلام المبطل مقرونا بالجواب لئلا يبقى الشك وعلى أن المحق يجب عليه استماع شبهة المبطل حتى يمكنه الاشتغال بحلها قال فما بال القرون الاولى .
51 .
- لما شاهد اللعين ما نظمه عليه السلام فى سلك الجواب من البرهان النير على الطراز الرائع خاف أن يظهر للناس حقية مقالاته عليه السلام وبطلان خرافات نفسه ظهورا بينا اراد أن يصرفه عليه السلام عن سننه إلى مالا يعنيه من الأمور التى لا تعلق لها في نفس الأمر بالرسالة من الحكايات موهما أن لها تعلقا بذلك ويشغله عما هو بصدده عسى يظهر فيه نوع غفلة فيتساق بذلك إلى أن يدعى بين يدى قومه نوع معرفة فقال فما بال الخ واصل البال الفكر يقال : خطر ببالى كذا ثم اطلق على الحال التى يعتنى بها وهو المراد ولا يثنى ولا يجمع إلا شذوذا فى قولهم بالات وكان الفاء لتفريع ما بعدها على دعوى الرسالة أي إذا كنت رسولا فاخبرنى ما حال القرون الماضية والأمم الخاليه وماذا جرى عليهم من الحوادث المفصلة .
قال موسى عليه السلام علمها عند ربى أي أن ذلك من الغيوب التى لا يعلمها إلا الله تعالى وإنما انا عبد لا أعلم منها إلا ما علمنيه من الأمور المتعلقة بالرسالة والعلم باحوال القرون وما جرى عليهم على التفصيل مما لا ملابسة فيه بمنصب الرسالة كما زعمت وقيل : إنما سأله عن ذلك ليختبر أنه نبى أو هو من جملة القصاص الذين دارسوا قصص الأمم السالفة وقال النقاش : أن اللعين لما سمع وعظ مؤمن آل فرعون يا قومى انى أخاف عليكم مثل يوم الاحزاب الآية سأل عن ذلك فرد عليه السلام علمه إلى الله تعالى لأنه لم يكن نزلت عليه التوراة فانه كان نزولها بعد هلاك فرعون .
وقال بعضهم : أن السؤال مبنى على قوله عليه السلام والسلام على من اتبع الهدى الخ أي فما حال القرون السالفة بعد موتهم من السعادة والشقاوة والمراد بيان ذلك تفصيلا كأنه قيل : إذا كان الأمر كما ذكرت ففصل لنا حال من مضى من السعادة والشقاوة ولذا رد عليه السلام العلم إلى الله D فاندفع ما قيل : أنه لو كان المؤول عنه ما ذكر من السعادة والشقاوة لأجيب ببيان أن من اتبع الهدى منهم فقد سلم ومن