وأما إن كان ذلك بسبب سائر فذلك السائر إما أن يكون عنصريا أو سماويا والأول باطل وأما أولا فلأنه كان يجب أن يكون المواضع المتسترة من جرم القمر مختلفة باختلاف مقامات الناظرين وأما ثانيا فلأن ذلك الساتر لا يكون هواء صرفا ولا نارا صرفة لأنهما شفافان فلا يحجبان بل لا بد وأن يكون مركبا إما بخارا وإما دخانا وذلك لا يكون مستمرا وأما إن كان الساتر سماويا فهو الحق وذلك إنما يكون لقيام أجسام سماوية قريبة المكان جدا من القمر وتكون من الصغر بحيث لا يرى كل واحد منها بل جملتها على نحو مخصوص من الشكل وتكون إما عديمة الضوء أو لها ضوء أضعف من ضوء القمر فترى في حالة إضاءته مظلمة وأما إن كان ذلك بسبب عائد إلى ذات القمر فلا يخلو إما أن يكون جوهر ذلك الموضع مساويا لجواهر المواضع المستنيرة من القمر في الماهية أو لا يكون فإن لم يكن كان ذلك لارتكاز أجرام سماوية مخالفة بالنوع للقمر في جرمه كما ذكرناه قبل وهو قريب منه .
وإما أن تكون تلك المواضع مساوية الماهية لجرم القمر فحينئذ يمتنع اختصاصها بتلك الآثار إلا بسبب خارجي لكنه قد ظهر لنا أن الأجرام السماوية لا تتأثر بشيء عنصري وبذلك أبطل قول من قال : إن ذلك المحو بسبب انسحاق عرض القمر من مماسة النار أما أولا فلأن ذلك يوجب أن يتأدى ذلك في الأزمان الطويلة إلى العدم والفساد بالكلية والأرصاد التوالية مكذبة لذلك وأيضا القمر غير مماس للنار لأنه مفرق في فلك تدويره الذي هو في حامله الذي بينه وبين النار بعد بعيد بدليل أن النار لو كانت ملاقية لحامله لتحركت بحركته إلى المشرق وليس كذلك لأن حركات الشهب في الأكثر لا تكون إلا إلى جهة المغرب وتلك الحركة تابعة لحركة النار والحركة المستديرة ليست للنار بذاتها فإنها مستقيمة الحركة فذلك لها بالعرض تبعا لحركة الكل فبطل ما قالوه ا ه .
وذكر الآمدي في أبكار الأفكار زيادة على ما يفهم مما ذكر من الأقوال وهي أن منهم من قال : إن ما يرى خيال لا حقيقة له ورده بأنه لو كان كذلك لاختلف الناظرون فيه ومنهم من قال : إنه السواد الكائن في القمر في الجانب الذي لا يلي الشمس ورده بأنه لو كان كذلك لما رؤى متفرقا ومنهم من قال : إنه وجه القمر فإنه مصور بصورة وجه الإنسان وله عينان وحاجبان وأنف وفم ورده بأنه مع بعده يوجب أن يكون فعل الطبيعة عندهم معطلا عن الفائدة لأن فائدة الحاجبين عندهم دفع أذى العرق عن العينين وفائدة الأنف الشم وفائدة الفم دخول الغذاء وليس للقمر ذلك وقد رد عليهم رحمة الله تعالى عليه سائر ما ذكروه .
وذكر الإمام في التفسير أن آخر ما ذكره الفلاسفة في ذلك أنه ارتكن في وجه القمر أجسام قليلة الضوء مثل ارتكاز الكواكب في أجرام الأفلاك ولما كانت تلك الأجرام أقل ضوءا من جرم القمر لا جرم شوهدت في وجهه كالكلف في وجه الإنسان وفي ارتكازها في بعض أجزائه دون بعض مع كونه متشابه الأجزاء عندهم دليل على الصانع المختار كما أن في تخصيص بعض أجزائه بالنور القوي وبعضها بالنور الضعيف مع تشابه الأجزاء دليلا على ذلك .
ومثل هذا التخصيص في الدلالة تخصيص بعض جوانب الفلك الذي هو عندهم أيضا جرم بسيط متشابه الأجزاء بارتكاز الكواكب فيه دون البعض الآخر .
وزعم بعض أهل الآثار أنه مكتوب في وجه القمر لا إله إلا الله وقيل لفظ جميل وقيل غير ذلك