ويفسر بما يكون قد قوبل في الآية الأمر بالنهي وكل من المأمور به بكل من المنهي عنه وجمع بين الأمر والنهي مع أن الأمر بالشيء نهي عن ضده والنهي عن الشيء أمر بضده لمزيد الإهتمام والإعتناء والإمام الرازي قد أطال الكلام في هذا المقام وذكر أن ظاهر الآية يقتضي المغايرة بين الثلاثة المأمور بها ويقتضي أيضا المغايرة بين الثلاثة المنهي عنها وشرع في بيان المغايرة بين الأول ثم قال : والحاصل أن العدل عبارة عن القدر الواجب من الخيرات والإحسان عبارة عن الزيادة في الطاعات بحسب الكمية وبحسب الكيفية وبحسب الدواعي والصوارف وبحسب الإستغراق في شهود مقام العبودية والربوبية ويدخل في تفسيره التعظيم لأمر الله تعالى والشفقة على خلقه سبحانه ومن الظاهر أن الشفقة على الخلق أقسام كثيرة أشرفها وأجلها صلة لا جرم أنه سبحانه أفرده بالذكر ثم شرع في بيان المغايرة بين الأخيرة وقال : تفصيل القول في ذلك أنه تعالى أودع في النفس البشرية قوى أربعة وهي الشهوانية البهيمية والغضبية السبعية والوهمية الشيطانية والعقلية الملكية وهذه الأخيرة لا يحتاج الإنسان إلى تهذيبها لأنها من جوهر الملائكة عليهم السلام ونتائج الأرواح القدسية العلوية وإنما المحتاج إلى التهذيب الثلاثة قبلها ولما كانت الأولى أعني القوى الشهوانية إنما ترغب في تحصيل اللذات الشهوانية وكان هذا النوع مخصوصا باسم الفحش ألا ترى أنه تعالى سمى الزنا فاحشة أشار إلى تهذيبها بقوله سبحانه : وينهى عن الفحشاء المراد منه المنع من تحصيل اللذات الشهوانية الخارجة عن إذن الشريعة ولما كانت الثانية أعني القوة الغضبية السبعية تسعى أبدا في إيصال الشر والبلاء والإيذاء إلى سائر الناس أشار سبحانه إلى تهذيبها بنهيه تعالى عن المنكر إذ لا شكر أن الناس ينكرون تلك الحالة فالمنكر عبارة عن الإفراط الحاصل في آثار القوة الغضبية ولما كانت الثالثة أعني القوة الوهمية الشيطانية تسعى أبدا في الإستعلاء على الناس والترفع وإظهار الرياسة والتقدم أشار سبحانه إلى تهذيبها بالنهي عن البغي إذ لا معنى له إلا التطاول والترفع على الناس ثم قال : ومن العجائب في هذا الباب أن العقلاء قالوا : أخس هذه القوى الثلاث الشهوانية وأوسطها الغضبية وأعلاها الوهمية والله تعالى راعى هذا الترتيب فبدأ سبحانه بذكر الفحشاء التي هي نتيجة القوة الشهوانية ثم بالمنكر الذي هو نتيجة القوة الغضبية ثم بالبغي الذي هي نتيجة القوة الوهمية أه وما تقدم عن غير واحد مأخوذ من هذا ولينظر هل يثبت بما قرره دليل التخصيص فيندفع الإعتراض السابق أم لا ثم إن الظاهر عليه أن عطف البغي على ما قبله كعطف إيتاء ذي القربى على ما قبله .
وبالجملة أن الآية كما أخرج البخاري في الأدب والبيهقي في شعب الإيمان والحاكم وصححه عن ابن مسعود أجمع آية للخير والشر وأخرج البيهقي عن الحسن نحو ذلك وأخرج الباوردي وأبو نعيم في معرفة الصحابة عن عبد الملك بن عمير قال : بلغ أكتم بن صيفي مخرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأراد أن يأتيه فأتى قومه فانتدب رجلان فاتيا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقالا : نحن رسل أكتم يسألك من أنت وما جئت به فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : أنا محمد بن عبد الله عبد الله ورسوله ثم تلا عليهم هذه الآية إن الله يأمر الخ قالوا : ردد علينا هذا القول فردده E عليهم حتى حفظوه فأتيا أكتم فأخبراه فلما سمع الآية قال : إني لأراه يأمر بمكارم الأخلاق وينهى عن مذاقها فكونوا في هذا الأمر رأسا ولا تكونوا فيه أذنابا وقد صارت هذه الآية أيضا كما أخرج أحمد والطبراني والبخاري في الأدب عن ابن عباس سبب استقرار الإيمان في قلب عثمان بن مظعون ومحبته للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولجمعها ما جمعت أقامها عمر بن عبد العزيز حين آلت