على ان التفاوت بين ذلك القطران وما نشاهده كالتفاوت بين النارين فكان ما نشاهده منهما أسماء مسمياتها في الآخرة فبكرمه العميم نعوذ وبكنفه الواسع نلوذ وجوز أن تكون في الكلام استعارة تمثيلية بأن تشبه النفس المتلبسة بالملكات الرديئة كالكفر والجهل والعناد والغباوة بشخص لبس ثيابا من زفت وقطران ووجه الشبه تحلي كل منهما بأمر قبيح مؤذ لصاحبه يستكره عند مشاهدته ويستعار لفظ أحدهما للآخر ولا يخفى ما في توجيه الاستعارة التمثيلية بهذا من المساهلة وهو ظاهر على أن القول بهذه الاستعارة هنا أقرب مايكون إلى كلام الصوفية وقال بعضهم : يحتمل أن يكون القطران المذكور عين مالابسوه في هذه النشأة وجعلوه شعارا لهم من العقائد الباطلة والأعمال السيئة المستجلبة لفنون العذاب قد تجسدت في النشأة الآخرة بتلك الصورة المستتبعة لاشتداد العذاب عصمنا الله تعالى من ذلك بلطفه وكرمه وأنت تعلم أن التشبيه البليغ على هذا على حاله وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس وأبو هريرة وعكرمة وقتادة وجماعة من قطرآن على أنهما ملمتان منونتان أولاهما قطر بفتح القاف وكسر الطاء وهي النحاس مطلقا أو المذاب منه وثانيتهما آن بوزن عان بمعنى شديد الحرارة .
قال الحسن : قد سعرت عليه جهنم منذ خلقت فتناهى حره وتغشى وجوههم النار .
5 .
- أي تعلوها وتحيط بها النار التي تسعر بأجسادهم المسربلة بالقطران وتخصيص الوجوه بالحكم المذكور مع عمومه لسائر أعضائهم لكونها أعز الأعضاء الظاهرة وأشرفها كقوله تعالى : أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة ولكونها مجمع الحواس والمشاعر التي لم يستعملوها فيما خلقت له من إدراك الحق وتدبره وهذا كما تطلع على أفئدتهم لأنها أشرف الأعضاء الباطنة ومحل المعرفة وقد ملؤها بالجهالات أو لخلوها كما قيل : عن القطران المغني عن ذكر غشيان النار ووجه تخليتها عنه بأن ذلك لعله ليتعارفوا عند انكشاف اللهب أحيانا ويتضاعف عذابهم بالخزي على رؤس الأشهاد وقرىء برفع الوجوه ونصب النار كأنه جعل ورود الوجوه على النار غشيانا لها مجازا وقرىء تغشى أي تتغشى بحذف إحدى التاءين والجملة كما قال أبو البقاء نصب على الحال كالجملة السابقة .
وفي الكشف وافاد العلامة الطيبي أن مقرنين سرابيلهم من قطران تغشى أحوال من مفعول ترى جيء بها كذلك للترقي ولهذا جيء بالثانية جملة أسمية لأن سرابيل القطران الجامعة بين الأنواع الأربعة أفظع من الصفد وأما تغشى فلتجديد الاستحضار المقصود في قوله تعالى : وترى لأن الثاني أهول والظاهر أن الثانيين منقطعان من حكم الرؤية لأن الأول في بيان حالهم في الموقف إلى أن يكب بهم في النار والاخيرين لبيان حالهم بعد دخولها وكأن الاول حرك من السامع أن يقول : وإذا كان هذا شأنهم في الموقف فكيف بهم وهم في جهنم خالدون فأجيب بقوله سبحانه : سرابيلهم من قطران وأوثر الفعل المضارع في الثانية لاستحضار الحال وتجدد الغشيان حالا فحالا وأكثر المعربين على عدم الانقطاع ليجزى الله متعلق بمضمر أي يفعل بهم ذلك ليجزي سبحانه كل نفس أي مجرمة بقرينة المقام ما كسبت من أنواع الكفر والمعاصي جزاءا وفاقا وفيه إيذان بأن جزاءهم مناسب لأعمالهم وجوز على هذا الوجه كون النفس أعم من المجرمة والمطيعة لأنه إذا خص المجرمون بالعقاب علم اختصاص المطيعين بالثواب مع أن عقاب المجرمين وهم أعداؤهم جزاء لهم أيضا كما قيل :