بترتيب آخر نعم لاينبغي القول بترتيب يكذبه الحس ويأباه العقل الصريح وإن جاء مثل ذلك عن الشارع وجب تأويله كما لايخفى 1 وذكر بعض الفضلاء أنه لم يجيء في ترتيب الاجرام العلوية والسفلية وشرح أحوالها كما فعل الفلاسفة عن الشارع صلى الله عليه وسلّم لما أن ذلك ليس من المسائل المهمة في نظره E وليس المهم الا التفكر فيها والاستدلال بها على وحدة الصانع وكماله جل شأنه وهو حاصل بما يحس منها فسبحان من رفع السماء بغير عمد ومد الارض وجعل فيها رواسي وأنهرا جمع نهر وهو مجرى الماء الفائض وتجمع أيضا على نهر ونهور وأنهر وتطلق على المياه السائلة على الأرض وضمها الى الجبال وعلق بهما فعلا واحدا من حيث أن الجبال سبب لتكونها على ما قيل وتعقب بأنه مبني على ماذهب اليه بعض الفلاسفة من أن الجبال لتركبها من أحجار صلبة إذا تصاعدت اليها الابخرة احتسبت فيها وتكاملت فتنقلب مياها وربما خرقتها فخرجت وذكر أن الذي تدل عليه الآثار أنها تنزل من السماء لكن لما كان نزولها عليها أكثر كانت كثيرا ماتخرج الانهار منها ويكفي هذا لتشريكهما في عامل واحد وجعلهما جملة واحدة وكأنهم عنوا بالنزول من السماء على الجبال نزول ماء المطر من السماء التي هي أحد الأجرام العلوية عليها والأكثرون أن النزول من السحاب والمراد من السماء جهة العلو وهو الذي تحكم به المشاهدة وقد أسلفنا لك مايتعلق بذلك أول الكتاب فتذكر .
والانهار التي جعلها الله تعالى في الارض كثيرة وذكر بعضهم أنها مائة وستة وتسعون نهرا 2 وقيل : هي أكثر من ذلك وجاء في أربعة منها أنها من الجنة ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله A سيحان وجيحان والفرات والنيل كل من أنهار الجنة والأولان بالألف بعد الحاء وهما نهران في أرض الأردن فجيحان نهر المصيصة وسيحان نهر أدنة وقول الجوهري في صحاحه جيحان نهر بالشام غلط أو أنه أراد المجاز من حيث أنه ببلاد الارمن وهي مجاورة للشام وهما غير سيحون وجيحون بالواو فان سيحون نهر الهند وهو يجري من جبال بأقاصيها مما يلي العين إلى أن ينصب في البحر الحبشي مما يلي ساحل الهند ومقدار جريه أربعمائة فرسخ وجيحون نهر بلخ يجري من أعين إلى أن يأتي خوارزم فيتفرق بعضه في أماكن ويمضي باقيه إلى البحيرة التي عليها القرية المعروفة بالجرجانية أسفل خوارزم يجري منه اليها السفن طولها مسيرة شهر وعرضها نحو ذلك وأما قول القاضي عياض هذه الانهار الاربعة أكبر أنهار بلاد الاسلام فالنيل بمصر والفرات بالعراق وسيحان وجيحان ويقال سيحون وجيحون ببلاد خراسان فقد قال النووي : إن فيه إنكارا من أوجه أحدها قوله : الفرات بالعراق وليست بالعراق وإنما هي فاصلة بين الشام والجزيرة الثاني قوله : سيحان وجيحان ويقال سيحون وجيحون فجعل الاسماء مترادفة وليس كذلك بل سيحان غير سيحون وجيحان غير جيحون باتفاق الناس والثالث قوله : ببلاد خراسان إنما سيحان وجيحان ببلاد الارمن بقرب الشام انتهى .
وقد يجاب عن الاول بنحو ماأجيب به عن الجوهري ولا يخفى أنه بعد زعم الترادف يصح الحكم بأنهما ببلاد خراسان كما يصح الحكم بأنهما ببلاد الأرمن وفي كون هذه الانهار من الجنة تأويلان الأول أن المراد تشبيه مياهها