الماء وأظهر منها ماأظهر وليس ذلك الا بسبب مشيئته تعالى التابعة لحكمته سبحانه لالأمر اقتضاه ذاتها فجعلت تميد لاضطراب أمواج البحر المحيط بها فوضع عليها من الجبال ماثقلت به بحيث لم يبق للأمواج سلطان عليها وهذا كما يشاهد في السفن حيث يضعون فيها مايثقلها من أحجار وغيرها لنحو ذلك وكون نسبة ارتفاع أعظم الجبال اليها النسبة السابقة لايضرنا في هذا المقام لأن الحجم أمر والنقل أمر آخر فقد يكون ذو الحجم الصغير أثقل من ذي الحجم الكبير بكثير ولا يقال : إن خلقها ابتداء بحيث لاتزحزحها الامواج كان ممكنا فلم لم يفعله سبحانه وتعالى بل خلقها بحيث تحركها الامواج ثم وضع عليها الجبال لدفع ذلك لأنا نقول إنما فعل سبحانه هكذا لما فيه من الحكم التي هو جل شأنه بها أعلم وهذا السؤال نظير أن يقال : إن خلق الانسان ابتداء بحيث لايؤثر فيه الجوع والعطش مثلا شيئا كان ممكنا فلم لم يفعله تعالى بل خلقه بحيث يؤثران فيه ثم خلق له ما يدفع به ذلك ليدفعه به وله نظائر بعد كثيرة وليس ذلك إلا ناشئا عن الغفلة عما يترتب على ماصدر منه تعالى من الحكم ولعل الحكمة فيما نحن فيه إظهار مزيد عظمته جلت عظمته للملائكة عليهم السلام فان ذلك مما يوقظ جفن الاستعظام ألا تراهم كيف قالوا حين رأوا مارأوا ربنا خلقت خلقا أعظم من الجبال الخ .
ويقال لمن يؤمن بهذا بين أنت لنا حكمة تقدم بعض الأشياء على بعض في الخلق كيفما كان التقدم وكذا حكمة خلق الانسان ونحوه محتاجا وخلق مايزيل احتاجه دون خلقه ابتداء على وجه لايحتاج معه إلى شيء فان بين شيئا قلنا بمثله فيما نحن فيه ثم إنا نقول : ليس حكمة خلق الجبال منحصرة في كونها أوتادا للأرض وسببا لاستقرارها بل هناك حكم كثيرة لايعلمها إلا الله تعالى .
وقد ذكر الفلاسفة للجبال منافع كثيرة قالوا : إن مادة السحب والعيون والمعدنيات هي البخار فلا تتكون إلا في الجبال أو فيما يقرب منها أما العيون فلأن الأرض إذا كانت رخوة نشفت الأبخرة عنها فلا يجتمع منها قدر يعتد به فاذن لاتجتمع إلا في الأرض الصلبة والجبال أصلب الأرضين فلا جرم كانت أقواها على حبس البخار حتى يجتمع ما يصلح أن يكون مادة للعيون ويشبه أن يكون مستقر الجبل مملوءا ماء ويكون الجبل في حقنه الأبخرة مثل الأنبيق الصلب المعد للتقطير لايدع شيئا من البخار يتحلل وقعر الأرض التي تحته كالقرع والعيون كالأذناب التي في الأنابيق والأودية والبخار كالقوابل ولذلك أكثر العيون إنما تنفجر من الجبال وأقلها في البراري وهو مع هذا لايكون إلا إذا كانت الأرض صلبة وأما إن أكثر السحب تكون في الجبال فوجوه أحدها أن في باطن الجبال من النداوات مالايكون في باطن الأرضين الرخوة وثانيهما : أن الجبال بسبب ارتفاعها أبرد فلاجرم يبقى على ظاهرها من الانداء والثلوج ما لايبقى على ظاهر الأرضين وثالثهما : إن الأبخرة الصاعدة تكون في الجبال وإذا ثبت ذلك ظهر أن أسباب تراكم السحب في الجبال أكثر لأن المادة فيها ظاهرا وباطنا أكثر والاحتقان أشد والسبب المحلل وهو الحر أقل وأما المعدنيات المحتاجة إلى أبخرة فيكون اختلاطها بالأرضية أكثر إقامتها في مواضع لاتنفرق فيها أطول ولا شيء في هذا المعنى كالجبال ومن تأمل علم أن للجبال منافع غير ذلك لاتحصى فلا يضر أن بعضا من الناس من وراء المنع لبعض ماذكر وسمعت من بعض 1 العصريين أن من جملة منافعها كونها سببا لانكشاف هذا المقدار المشاهد من الأرض