فيصير ذلك سببا لكمال الاستغراق وسيأتي أن شاء الله تعالى ما للصوفية قدس الله تعالى اسرارهم في هذا المقام في باب الاشارة وقيل : لأنه عليه السلام كان واثقا بحياتهما عالما بمكانهما طامعا بايابهما وأما يوسف فلم يكن في شأنه مايحرك سلسلة رجائه سوى رحمة الله تعالى وفضله وفيه بحث .
وأخرج الطبراني وابن مردويه والبيهقي في شعب الايمان عن سعيد بن جبير لم تعط أمة من الأمم إنا لله وانا اليه راجعون الا أمة محمد صلى الله عليه وسلّم أي لم يعلموه ولم يوفقوا له عند نزول المصيبة بهم ألا يرى إلى يعقوب عليه السلام حين أصابه ماأصابه لم يسترجع وقال ما قال وفي أسفا ويوسف تجنيس نفيس من غير تكلف وهو مما يزيد الكلام الجليل بهجة وابيضت عيناه من الحزن أي بسببه وهو في الحقيقة سبب للبكاء والبكاء سبب لابيضاض عينه فان العبرة اذا كثرت محقت سواد العين وقلبته الى بياض كدر فاقيم سبب السبب مقامه لظهوره والابيضاض قيل انه كناية عن العمى فيكون قد ذهب بصره عليه السلام بالكلية واستظهره أبو حيان لقوله تعالى : فارتد بصيرا وهو يقاتل بالأعمى وقيل : ليس كناية عن ذلك والمراد من الآية أنه عليه السلام صارت في عينيه غشاوة بيضتهما وكان عليه السلام يدرك ادراكا ضعيفا وقد تقدم الكلام في حكم العمى بالنسبة الى الانبياء عليهم السلام وكان الحسن ممن يرى جوازه .
فقد أخرج عبدالله بن أحمد في زوائده وابن جرير وابو الشيخ عنه قال : كان منذ خرج يوسف من عند يعقوب عليه السلام الى يوم رجع ثمانون سنة لم يفارق الحزن قلبه ودموعه تجري على خديه ولم يزل يبكي حتى ذهب بصره وما على الأرض يومئذ والله أكرم على الله تعالى منه والظاهر أنه عليه السلام لم يحدث له هذا الأمر عند الحادث الاخير ويدل عليه ماأخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ليث بن أبي سليم أن جبريل عليه السلام دخل على يوسف عليه السلام في السجن فعرفه فقال له : أيها الملك الكريم على ربه هل لك علم بيعقوب قال : نعم قال : ما فعل قال : ابيضت عيناه من الحزن عليك قال : فما بلغ من الحزن قال : حزن سبعين مشكلة قال : هل له على ذلك من أجر قال : نعم أجر مائة شهيد وقرأ ابن عباس ومجاهد من الحزن بفتح الحاء والزاي وقرأ قتادة بضمهما واستدل بالآية على جواز التأسف والبكاء عند النوائب ولعل الكف عن أمثال ذلك لايدخل تحت التكليف فانه قل من يملك نفسه عند الشدائد .
وقد روى الشيخان من حديث أنس أنه A بكى على ولده ابراهيم وقال : إن العين تدمع والقلب يخشع ولا نقول الا ما يرضى ربنا وإنا لفراقك ياابراهيم لمحزونون وانما المنهي عنه ما يفعله الجهلة من النياحة ولطم الخدود والصدور وشق الجيوب وتمزيق الثياب ورويا أيضا من حديث أسامة أنه صلى الله تعالى عليه وسلم رفع اليه صبي لبعض بناته يجود بنفسه فاقعده في حجره ونفسه تتقعقع كأنها في شن ففاضت عيناه E فقال سعد : يارسول الله ماهذا فقال : هذه رحمة جعلها الله تعالى فيمن شاء من عباده وإنما يرحم الله تعالى من عباده الرحماء وفي الكشاف أنه قيل له E : تبكي وقد نهيتنا عن البكاء قال ما نهيتكم عن البكاء وانما نهيتكم عن صوتين أحمقين صوت عند الفرح وصوت عند الترح وعن الحسن أنه بكى على ولد أو غيره فقيل له في ذلك فقال : مارأيت الله تعالى جعل الحزن عارا على يعقوب عليه السلام فهو كظيم .
48