فمنهم شقي وسعيد تفسيما صحيحا لأن من شرطه أن تكون صفة كل قسم منفية عن قسميه لأن ذلك الشرط حيث الإنفصال حقيقي أو مانع من الجمع وههنا المراد أن أهل الموقف لا يخرجون من القسمين وإن حالهم لا تخلو عن السعادة والشقاوة وذلك لا يمتنع إجتماع الأمرين في شخص واحد باعتبارين إنتهى وهو ما ذكره الإمام وآثره القاضي واعترض بأنه لا دلالة في اللفظ على المبدأ المعين ولو سلم فالإستثناء يقتضي إخراجا عن حكم الخلود وهو لا محالة بعد الدخول فكيف ينتقض بما سبق عليه وكيف وقد سبق قوله تعالى : في الجنة ثم قيل : فإن قلت : زمان تفرقهم عن الموقف هو الإبتداء وهو آخر يوم يأتي قلت : إن ادعى أن الإبتداء من إبتداء ذلك الزمان جاز أن يسلم دلالة اللفظ عليه ولا ينفع لأن الكل في الدارين غير خالدين على هذا التقدير وأما جعل إبتداء المدة من إنتهائه فلا وبأن تقابل الحكمين يدل على تقابل القسمين بمعنى منع الجميع مطلقا وأجيب بعد غمض العين عما في ذلك من الخروج عن آداب المناظرة بأن مبدأ زمان خلود أهل الجنة من زمان دخول أهل النار في النار ويدل على ذلك إتحاد معيار الخلودين وهو ما دامت السموات والأرض فإنه يدل على زمان خلودهما ولا إتحاد مع الإختلاف في المبدأ والإستثناء عن حكم الخلود من مبدأ معين يكون بالإخراج عن حكم الدخول الذي يتضمنه الخلود فيها لا محالة .
وخلاصة المعنى على هذا أن السعداء كلهم خالدون في الجنة من زمان دخول أهل النار في النار إلا العصاة منهم الذين أراد الله سبحانه دخولهم في النار مدة معينة علمها عنده جل وعلا وما ذكر من حديث تقابل الحكمين إن أريد تقابلهما بمعنى منع الجمع فلا تقابل فيهما بهذا المعنى لإجتماعهما في العصاة وإن أريد مطلقا فلا دلالة على تقابل القسمين بذلك المعنى إنتهى .
ولا يخفى على المنصف ما في ذلك القول من التكلف ومخالفة الظاهر والإنتصار له بما ذكر لا يجديه نفعا وقيل : هو إستثناء من الضمير المتقدم إلا أن الحكم الخلود في عذاب النار وكذا يقال فيما بعد : إن الحكم فيه الخلود في نعيم الجنة وأهل النار ينقلون منها إلى الزمهرير وغيره من العذاب أحيانا وكذلك أهل الجنة ينعمون بما هو أعلى منها كالإتصال بجناب القدس والفوز برضوان الله تعالى الذي هو أكبر وما يتفضل به عليهم سوى ثواب الجنة مما لا يعرف كنهه إلا هو سبحانه وتعالى وإلى هذا ذهب الزمخشري سالا سيف البغي والإعتزال وقد رده العلامة الطيبي وأطال الكلام في ذلك .
وقال صاحب الكشف : إن ذلك في أهل النار ظاهر لأنهم ينقلون من حر النار إلى برد الزمهرير والرد بأن النار عبارة عن دار العقاب غير وارد لأنا لا ننكر إستعمال النار فيها تغليبا أما دعوى الغلبة حتى يهجر الأصل فكلا ألا ترى إلى قوله تعالى : نارا تلظى نارا وقودها الناس والحجارة وكم وكم وأما رضوان الله تعالى عن أهل الجنة وهم فيها فيأبى الإستثناء كيف وقوله سبحانه : خالدين فيها لا يدل بظاهره على أنهم منعمون بها فضلا عن انفرادها بتنعمهم إلا أن يخصص بجنة الثواب لا محض التفضل وكفاه بطلانا التخصيص من غير دليل واعتراض بأن لك أن تقول : هجر الأصل في الآيتين اللتين ذكرتا علم من الوصف وفي هذه الآية ذكرها في مقابلة الجنة يعضد أن المراد بها دار العقاب مطلقا .
وقيل : إن الإستثناء مفرغ من أعم الأوقات و ما على أصلها لما لا يعقل وهو الزمان والحكم الكون في النار والمعنى أما الذين شقوا ففي النار في كل زمان بعد إتيان ذلك اليوم إلا زمانا شاء الله تعالى فيه عدم