للبلغاء في المحاورة والمفاوضة ولا خوض معهم في إنشاء الخطب والمعارضة ثم أتى بكتاب بهرت فصاحته كل ذي أدب وحيرت بلاغته مصاقع العرب وإحتوى على بدائع أصناف العلوم ودقائق حقائق المنطوق والمفهوم وغدا كاشفا عن أسرار الغيب التي لاتنالها الظنون ومعربا عن أقاصيص الأولين وأحاديث الآخرين من القرون ومصدقا لما بين يديه من الكتب المنزلة ومهيمنا عليها في أحكامه المجملة والمفصلة لايبقى عنده إشتباه في أنه وحي منزل من عند الله جل جلاله وعم إفضاله هذا هو الذي إتفقت عليه كلمة الجمهور وهو أوفق بالرد عليهم كما لايخفى على المتأمل .
وقيل إن الأنسب ببناء الجواب فيما سلف على إمتناع صدور التغيير والتبديل عنه E لكونه معصية موجبة للعذاب العظيم وإقتصاره صلى الله تعالىعليه وسلم على إتباع الوحي وإمتناع الإستبداد بالرأي من غير تعرض هناك ولا هنا لكون القرآن في نفسه أمر خارجا عن طوق البشر ولا بكونه E غير قادر على الإتيان بمثله أن يستشهد ههنا بما يلائم ذلك من أحواله صلى الله تعالى عليه وسلم المستمرة في تلك المدة المتطاولة من كمال نزاهته E عما يوهم شائبة صدور الكذب والإفتراء عنه في حق أحد كائنا من كان كما ينبىء عنه تعقيبه بتظليم المفترى على الله تعالى والمعنى قد لبثت فيما بين ظهرانيكم قبل الوحي لا أتعرض لأحد قط بتحكم ولا جدال ولا أحوم حول مقال فيه شائبة شبهة فضلا عما فيه كذب وإفتراء ألا تلاحظونه أفلا تعقلون أن من هذا شأنه المطرد في هذا العهد البعيد يستحيل أن يفترى على الله D ويتحكم على كافةالخلق بالأوامر والنواهي الموجبة لسلب الأموال وسفك الدماء وغير ذلك وإن ماأتى به وحي مبين تنزيل من رب العالمين إنتهى .
وأنت تعلم أن هذا غير منساق إلى الذهن وأن الكلام الأول مشير في الجملة إلى كون القرآن أمرا خارجا عن طوق البشر وأنه صلى الله عليه وسلّم غير قادر على الإتيان بمثله على أنه بعد لايخلو عن مقال فتأمل وقوله سبحانه : فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إستفهام إنكاري معناه النفي أي لاأحد أظلم من ذلك ونفي الاظلمية كما هو المشهور كناية عن نفي المساواة فالمراد أنه أظلم من كل ظالم وقد مر تحقيق ذلك .
والآية مرتبطة بما قبلها على أن المقصود منها تفاديه A مما لوحوا به من نسبة الإفتراء على الله سبحانه إليه E وحاشاه وتظليم للمشركين بتكذيبهم للقرآن وكفرهم به وزيادة كذبا مع أن الإفتراء لا يكون إلا كذلك للإيذان بأن ما لوحوا به ضمنا وحملوه E عليه صريحا مع كونه إفتراء على الله سبحانه كذب في نفسه فرب إفتراء يكون كذبه في الإسناد فقط كما إذا أسندت ذنب زيدإلى عمرو وهذا للمبالغة منه A في التفادي مما ذكر والفاء لترتيب الكلام على ما سبق من بيان كون القرآن بمشيئته تعالى وأمره أي وإذا كان الأمر كذلك فمن إفترى عليه سبحانه بأن يخلق كلاما فيقول : هذا من عند الله تعالى أو يبدل بعض آياته ببعض كما تجوزون ذلك في شأني وكذلك من كذب بآياته جل شأنه كما تفعلونه أنتم أظلم من كل ظالم وقيل : المقصود من الآية تظليم المشركين لإفترائهم على الله تعالى في قولهم : إنه تعالى عما يقولون ذو شريك وذو ولد وتكذيبهم بآياته سبحانه وهي مرتبطة إما بما قبلها أيضا على معنى أني لم أفتر على الله تعالى ولم أكذب عليه وقد قام الدليل على ذلك وأنتم قد فعلتم ذلك حيث زعمنم أن الله تعالى شريكا وأن له