ورفعوا الوسائط ثم تاب عليهم حيث رأى سبحانه إنقطاعهم إليه وتضرعهم بين يديه وقد جرت عادته تعالى مع أهل محبته إذا صدر منهم ما ينافي مقامهم بأدبهم بنوع من الحجاب حتى إذا ذاقوا طعم الجناية وإحتجبوا عن المشاهدة وعراهم ماعراعم مما أنساهم دنياهم وأخراهم أمطر عليهم وابل سحاب الكرم وأشرق على آفاق أسرارهم أنوار القدم فيؤنسهم بعد يأسهم ويمن عليهم بعد قنوطهم وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وما أحلى قوله : هجروا والهوى وصال وهجر هكذا سنت الغرام الملاح ياأيها الذين امنوا اتقوا الله في جميع الرذائل بالإجتناب عنها وكونوا مع الصادقين نية وقولا وفعلا أي إتصفوا بما إتصفوا به من الصدق وقيل : خالطوهمخ لتكونوا مثلهم فكل قرين بالمقارن يقتدى .
وفسر بعضهم الصادقين بالذين لم يخلفوا الميثاق الأول فإنه أصدق كلمة وقد يقال : الأصل الصدق في عهد الله كما قال تعالى : رجال صدقوا ماعاهدوا الله ثم في عق العزيمة ووعد الخليقة كما قال سبحانه في إسماعيل : إنه كان صادق الوعد وإذا روعي الصدق في المواطن كلها كالخاطر والفكر والنية والقول والعمل صدقت المنامات والواردات والأحوال والمقامات والمواهب والمشاهدات فهو أصل شجرة الكمال وبذر ثمرة الأحوال وملاك كل خير وسعادة وضده والكذب فهو أسوأ الرذائل وأقبحها وهو منافي المروءة كما قالوا : لا مروأة لكذوب وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلو لا نفر من كل فرقة طائفة ليتفقهوا في الدين إشارة إلى أنه يجب على كل مستعد من جماعة سبوك طريق طلب العلم إذ لايمكن لجميعهم أما ظاهر فلفوات المصالح وأما باطنا فلعدم الإستعداد للجميع .
والفقه من علوم القلب وهي إنما تحصل بالتزكية والتصفية وترك المألوفات وإتباع الشريعة فالمراد من النفر السفر المعنوي وهذا هو العلم النافع وعلامة حصوله عدم خشية أحد سوى الله تعالى ألا ترى كيف نفى الله عمن خشي غيره سبحانه الفقه فقال : لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله ذلك بأنهم قوم لايفقهون وعلى هذا فحق لمثلي أن ينوح على نفسه وقد صرح بعض الأكابر أن الفقه علم راسخ في القلب ضاربة عروقه في النفس ظاهر أثره على الجوارح لا يمكن لصاحبه أن يرتكب خلاف مايقتضيه إلا إذا غلب القضاء والقدر وقد أنزل الله تعالى كما قيل على بعض أنبياء بني إسرائيل عليهم السلام : لاتقولوا العلم بالسماء من ينزل به ولافي تخوم الأرض من يصعد به ولا من وراء اليبحر من يعبر ويأتي به والعلم مجعول في قلوبكم تأدبوا بين يدي بآداب الروحانيين وتخلقوا بأخلاق الصديقين أظهر العلم من قلوبكم حتى يغمركم ويعطيكم وجاء من أتقى الله أربعين صباحا تفجرت ينابع الحكمة من قلبه وإذا تحققت ذلك علمت أن دعوى قوم اليوم الفقه بالمعنى الذي ذكرناه مع تهافتهم على المعاصي تهافت الفراش على النار وعقدمه الحلقات عليها دعوى كاذبة مصادمة للعقل والنقل وهيهات أن يحصل لهم ذلك الفقه ماداموا على تلك الحال ولو ضربوا رءوسهم بألف صخرة صماء وعطف سبحانه قوله : ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم على قوله تعالى : ليتفقهوا إشارة إلى أن الإنذار بعد التفقه والتحلي بالفضائل إذ هو الذي يرجى نفعه : إبدأ بنفسك فلهها عن غيها فإذا أنتهت عنه فأنت حكيم فهناك يسمع ما تقول ويقتدى بالقول منك وينفع التعليم ولذا قال جل وعلا : لعلهم يحذرون وقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار