المبيع الذي هو العمدة والمقصد في العقد أنفس المؤمنين وأموالهم والثمن الذي هو الوسيلة في الصفقة الجنة ولم يعكس بأن يقال : إن ألله باع الجنة من المؤمنين بأنفسهم وأموالهم ليدل على أن المقصد بالعقد هو الجنة ومابذله المؤمنون في مقابلتها وسيلة إليها بكمال العناية بهم وبأموالهم ثم إنه تعالى لم يقل بالجنة بل قال عز شأنه : بأن لهم الجنة مبالغة في تقرير وصول الثمن إليهم وإختصاصه بهم كأنه قيل : بالجنة الثابتة لهم المختصة بهم ومن هنا يعلم أن هذه القراءة أبلغ من قراءة الأعمش ونسبت أيضا إلى عبدالله رضي الله تعالى عنه بالجنة على أنها أوفق بسبب النزول فقد أخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي وغيره أنهم قالوا : قال عبدالله بن رواحة لرسول الله صلى الله عليه وسلّم : إشترط لربك ولنفسك ماشئت قال : أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا أو أشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم قالوا : فما لنا قال : الجنة قالوا : ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل فنزلت إن الله اشترى الآية .
وقيل : عبر بذلك مدحا للمؤمنين بأنهم بذلوا أنفسهم وأموالهم بمجرد الوعد لكمال ثقتهم بوعده تعالى مع أن تمام موقوف على ذلك إذ لو قيل بالجنة لإحتمل كون الشراء على حقيقته لأنها صالحة للعوضية بخلاف الوعد بها وإعترض بأن مناط دلالة ما عليه النظم الجليل على الوعد ليس كونهجملة ظرفية مصدرة بان فإن ذلك بمعزل من الدلالة على الإستقبال بل هو الجنة التي يستحيل وجودها في عالم الدنيا ولو سلم ذلك بكون العوض الجنة الموعود بها لأنفس الوعد بها على أن حديث إحتمال كون الشراءحقيقة لو قيل بالجنة لايخلو عن نظر كما قيل لأن حقيقة الشراء مما لا يصح منه تعالى لأنه جل شأنه مالك الكل والشراء إنما يكون ممن لايملك ولهذاقال الفقهاء : طلب الشراء يبطل دعوى الملكية نعم قد لا يبطل في بعض الصور كما إذا إشترى الأب دارا لطفله من نفسه فكبر الطفل ولم يعلم ثمباعها الأب وسلمها للمشتري ثم طلب الإبن شراءها منه ثم علم بما صنع أبوه فإدعى الدار فإنه تقبل دعواه ولا يبطلها ذلك الطلب كما بقتضيه كلام الأستروشتى لكن هذا لايضرنا فيما نحن فيه ومن المحققين من وجه دلالة ما في النظم الكريم على الوعد بأنه يقتضي بصريحه عدم التسليموهو عين الوعد لأنك إذا قلت : إشتريت منك كذا بكذا إحتمل النقد بخلاف ما إذا قلت : بأن لك كذا فإنه في معنى لك على كذا وفي ذمتي واللامهنا ليست للملك إذ لايناسب شراء ملكه بملكه كالمهورة إحدى خدمتيها فهي للإستحقاق وفيه إشعار بعدم القبض وأما كون تمام الإستعارة موقوفا على ذلك فله وجه أيضا حيث كان المراد بالإستعارة الإستعارة التمثيلية إذ لولاه لصح جعل الشراء مجازا عن الإستبدال مثلا وهو مما ينبغي الإلتفات إليه مع تأتي التمثيل من البلاغة واللطائف على ما لا يخفى لكن أنت خبير بأن الكلام بعد لا يخلو عن بحث ومما أشرنا إليه من فضيلة التمثيل يعلم إنحطاط القول بإعتبار الإستعارة أو المجاز المرسل في إشترى وحده كما ذهب إليه البعض وقوله تعالى : يقاتلون في سبيل الله قيل بيان لمكان التسليم كما أشير إليه فيما تقدم وذلك لأن البيع سلم كما قال الطيبي وغيره وقيل : بيان لما لأجله الشراء كأنه لما قال سبحانه : إن الله اشترى إلخ قيل : لماذا فعل ذلك فقيل : ليقاتلوا في سبيله تعالى وقيل : بيان للبيع الذي يستدعيه الإشتراء المذكور كأنه قيل : كيف يبيعون أنفسهم وأموالهم بالجنة فقيل : يقاتلون في سبيله عز شأنه وذلك بذل منهم لأنفسهم وأموالهم إلى جهته تعالى وتعريض لهما للهلاك