يهاب النوم أن يغشى عيونا تهابك فهو نفار شرود وما يقال : إن مثل هذا إنما يليق بالشعر لا بالقرآن الكريم فغير مسلم وذكر ابن المنير في توجيه إتحاد الفاعل على القراءتين أن لقائل أن يقول : فاعل تغشية النعاس إياهم هو الله تعالى وهو فاعل الأمنة أيضا لأنه خالقها فحينئذ يتحد فاعل الفعل والعلة فيرتفع السؤال ويزول الإشكال على قواعد أهل السنة التي تقتضي نسبة إفعال الخلق إلى الله تعالى على أنه خالقها ومبدعها وتعقبه بأن للمورد أن يقول : المعتبر الفاعل اللغوي وهو المتصف بالفعل وهو هنا ليس إلا العبد إذ لا يقال لله سبحانه آمن وإن كان هو الخالق وحينئذ يحتاج إلى الجواب بما سلف والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع صفة لأمنة أي أمنة كائنة منه تعالى لكم ولعل مغايرة ما هنا لما في سورة آل عمران لإختلاف المقام فقد قالوا : إن ذلك المقام إقتضى الإهتمام بشأن الأمن ولذلك قدمه سبحانه وتعالى وبسط الكلام فيه كما لا يخفى على من تأمل في السياق والسباق بخلافه هنا لأنه في مقام تعداد النعم فلذا جيء بالقصة مختصرة للرمز وقريء أمنة بالسكون وهو لغة فيه .
وينزل عليكم من السماء ماء عطف على يغشيكم وكان هذا قبل النعاس كما روي عن مجاهد وتقديم الجار والمجرور على المفعول به للإهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر كما مر غير مرة وتقديم عليكم لما أن بيان كون التنزيل عليهم أهم من بيان كونه من السماء : وقرأ ابن كثير وسهل ويعقوب وأبو عمر وينزل بالتخفيف من الإنزال وقرأ الشعبي ما ليطهركم به أي من الحدث الأصغر والأكبر ووجهها كما قال ابن جني أن ما موصولة واللام متعلقة بمحذوف وقع صلة لها أي وينزل عليكم الذي ثبت لتطهيركم ونظير هذه اللام اللام في قولك : أعطيت الثوب الذي لدفع البرد وهي في قراءة الجماعة نظير اللام في قولك : زرتك لتكرمني ومرجع القراءتين واحد والمشهورة أفصح بالمراد وانظر لم لا يجوز أن تخرج هذه القراءة على ما سمع من قولهم أسقني ما بالقصر وقد حكي ذلك في القاموس وأرى أن العدول عن ذلك إن جاز كالتيمم مع وجود الماء .
ويذهب عنكم رجز الشيطان أي وسوسته وتخويفه إياكم من العطش أخرج ابن المنذر وأبو الشيخ من طريق ابن جريج عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المشركين غلبوا المسلمين في أول أمرهم على الماء فظميء المسلمون وصلوا مجنبين محدثين وكانت بينهم رمال فألقى الشيطان في قلوبهم الحزن وقال : أتزعمون أن فيكم نبيا وأنكم أولياء الله تعالى وتصلون مجنبين محدثين فأنزل الله تعالى من السماء ماء فسال عليهم الوادي فشربوا وتطهروا وثبتت أقدامهم وذهبت وسوسة الشيطان وفسر بعضهم الرجز هنا بالجنابة مع إعتبار كون التطهير منها واعترض بلزوم التكرار ودفع بأن الجملة الثانية تعليل للأولى والمعنى طهركم من الجنابة لأنها كانت من رجز الشيطان وتخييله وقريء رجس وهو بمعنى الرجز وليربط على قلوبكم أي يقويها بالثقة بلطف الله تعالى فيما بعد بمشاهدة طلائعه وأصل الربط الشد ويقال لمن صبر على الشيء : ربط نفسه عليه .
قال الواحدي : ويشبه أن تكون على صلة أي وليربط على قلوبكم وقيل الأصل ذلك إلا أنه أتى بعلى قصدا للإستعلاء وفيه إيماء إلى أن قلوبهم قد إمتلأت من ذلك حتى كأنه علا عليها وفي ذلك من إفادة التمكن ما لا يخفى ويثبت به الأقدام ولا تسوخ في الرمل فالضمير للماء كالأول