أن معنى قوله تعالى في كتاب مبين أنه محفوظ غير منسي ولا مغفول عنه كما يقول القائل لغيره ما تصنعه مسطور مكتوب عندي فانه إنما يريد أنه حافظ له يريد مكافأته عليه وأنشد لذلك : .
إن لسلمى عندنا ديوانا .
وذكر الامام ههنا ما سماه دقيقة وهو أن القضايا العقلية المحضة يصعب تحصيل العلم على سبيل التمام والكمال إلا للعقلاء الكاملين الذين تعودوا الاعراض عن قضايا الحس والخيال والفوا استحضار المعقولات المجردة وهم كالكبريت الأحمر وعنده مفاتح الغيب من تلك القضايا وحيث أريد ايصالها إلى كل عقل لأن القرآن إنما نزل لينتفع به جميع الخلق ذكر مثال من الأمور المحسوسة الداخلة تحت تلك القضية العقلية الكلية ليصير ذلك المعقول بمعاونة هذا المثال المحسوس مفهوما لكل واحد فذكر ويعلم ما في البر والبحر ليكشف به عن حقيقة عظة المعقول وقدم ذكر البر لأن الانسان قد شاهد أحواله وكثرة ما فيه .
وأما البحر فاحاطة العقل بأحواله أقل إلا أن الحس يدل على أن عجائب البحار في الجملة أكثر وطولها وعرضها أعظم وما فيها من الحيوانات وأجناس المخلوقات أعجب فاذا استحضر الخيال معلومات البر والبحر وعرف أن مجموعها حقير جنب ما دخل في دائرة عموم و عنده مفاتح الغيب يصير ذلك مقويا ومكملا للعظمة الحاصلة تحت ذلك ثم كشف سبحانه عن عظمة البر والبحر بقوله D وما تسقط من ورقة إلا يعلمها وذلك لأن العقل يستحضر جميع ما في الأرض من المدن والقرى والمفاوز والمهالك ثم يستحضر كم فيها من النجم والشجر ثم يستحضر أنه لا يتغير حال ورقة الا والحق يعلمها ثم ذكر مثالا أشد هيبة وهو ولا حبة الخ .
وذلك لأن الحبة تكون في غاية الصغر و ظلمات الأرض يخفى فيها أكبر الأجسام وأعظمها فاذأ سمع العاقل أن تلك الحبة الصغيرة الملقات في ظلمات الأرض على اتساعها وعظمتها لا تخرج من علمه سبحانه انتبه غاية الانتباه وفاز من مجموع ذلك بالحظ الأوفر من المعنى المشار اليه في صدر الآية ثم انه تعالى لما قوى ذلك المعقول المحض المجرد بذكر هذه الجزئيات المحسوسة عاد إلى ذكر تلك القضية بعبارة أخرى وهي قوله عز اسمه ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب فانه عين ما تقدم وهذا مبني على أحد الوجوه في الآية فلا تغفل وفيها دليل على أن الله تعالى عالم بالجزئيات .
ونسبت المخالفة فيه للفلاسفة والحق أنهم لا ينكرون ذلك وانما ينكرون علمه سبحانه بها بوجه جزئي وهو بحث طويل الذيل وكذا بحث علمه تعالى من حيث هو وقد ألفت فيه الرسائل وصار معترك أفهام الأواخر والأوائل وسبحان من لا يقدر قدره غيره .
وهو الذي يتوفاكم بالليل أي ينيمكم فيه كما نقل عن الزجاج والجبائي ففيه استعارة تبعية حيث استعير التوفي من الموت للنوم لما بينهما من المشاركة في زوال احساس الحواس الظاهرة والتمييز قيل : والباطنة أيضا واصله قبض الشيء بتمامه ويقال : توفيت الشيء واستوفيته بمعنى ويعلم ما جرحتم بالنهار أي ما كسبتم وعلمتم فيه من الأثم كما أخرج ذلك ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقتادة وهو الذي يقتضيه شياق الآية فانه للتهديد والتوبيخ ولهذا أوثر يتوفاكم على ينيمكم